- يمكن لكل متابع لتداعيات طوفان الأقصى أن يعي جيداً أنّ ما يقوم به نتنياهو من تلويح بعملية عسكرية ما هو إلا محاولة ضغط على حماس لفرض تنازلات في المفاوضات الجارية من أجل صفقة تبادل الأسرى.
أكثر من أربعة أشهر من العدوان الإسرائيلي على غزة وإزهاق الدماء الفلسطينية في محاولة “إسرائيلية” فاشلة لكسر مشهدية ملحمة طوفان الأقصى التي نالت من هيبة الأمن والأمان الإسرائيلي وفضحت كذبة إسرئيل التي لا تقهر فقهرت وكسرت مع كسر الجدار والحصار والولوج داخل “غلاف غزة” كان تأكيداً على أن الإرادة بالتحرر من براثن الاحتلال لم ولن تموت فالصراع مع هذا العدو هو صراع وجود وليس صراع حدود وحسب.. ولا بد أن نؤكد هنا أن المقاومة تخوض حربان في جبهة واحدة هي “جبهة الوجود” والحرب الأولى هي حرب “تحرير الإرادة” وقد كسبتها منذ اللحظة الأولى لإنطلاق هذه المقاومة على عموم الأرض السورية والفلسطينية واللبنانية والعراقية واليمنية والإيرانية وشتى الأراضي النابضة بالمقاومة، والحرب الثانية هي حرب “تحرير الأرض” وطالما انتصرت المقاومة في الأولى فهي السبيل للنصر في الثانية فلا يتحقق النصر بدون إرادة وطالما تحررت الإرادة فهي السبيل لتحرير الأرض..
وبعد فشل جيش الاحتلال بتحقيق أي من أهدافه في غزة ولم يحقق سوى المجازر والجرائم وتهجير الفلسطينيين من شمال قطاع غزة فوسطه ثم نحو الجنوب واليوم في عودة على بدء الجرائم الإسرائيلية يلوّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ببدء عملية برية في رفح جنوب غزة، في مسعى إلى تحقيق بعض من الأهداف التي لم تتحقق من التوغل البري في شمال غزة، بموازاة هذه التهديدات تجري محاولة إيجاد حل سياسي ومسار تفاوضي بوساطة قطرية – مصرية ورعاية أميركية قدمت من خلالها حماس شروطها لإطلاق سراح الأسرى في ما سمي باتفاق إطار الهدنة وما تلاه من اجتماع رباعي في القاهرة غابت عنه حماس مع حضور شروطها على طاولة المفاوضات.. غير أن حضور الموساد الإسرائيلي في لقاء القاهرة يقرأ على أنه جاء في سبيل انتزاع غطاء سياسي، وضوء أخضر لبدء العملية.
ويمكن لكل متابع لتداعيات طوفان الأقصى أن يعي جيداً بأنّ ما يقوم به نتنياهو من تلويح بعملية عسكرية ما هو إلا محاولة ضغط على حماس لاستحصال تنازلات في المفاوضات الجارية لصفقة تبادل الأسرى فكما هو معلوم في العلاقات الدولية والصراع الدولي فإنّ الأطراف المتحاربة تسعى دائماً إلى كسب أوراق في الميدان لصرفها في السياسة، وبالتالي ضغط إسرائيلي لتسريع عملية التفاوض وإطلاق سراح الرهائن عبر استحصال تنازلات من حماس من خلال الضغط الشعبي عليها وهو سلاح ذو حدين يريد استخدامه نتنياهو فالضغط الشعبي على حماس سيقابله ضغط شعبي ضدّ نتنياهو وحكومته ولكن لا خيار آخر أمام نتنياهو فعدم القدرة على المواجهة في الشمال تعني له حكماً تصعيد في الجنوب، خاصة إذا ما فندنا أسباب اجتياح رفح من وجهة نظر “إسرائيل” ستكون كالتالي:
أولاً: قطع خطوط الإمداد وتطبيق الخناق على حماس من خلال السيطرة على “معبر رفح” و”ممر صلاح الدين” وبإغلاق المعبرين تتمكن إسرائيل من إغلاق الباب نهائياً أمام ما تسميه تزويد حماس بالأسلحة التي تستخدمها الآن في المقاومة
ثانياً: إفراغ غزة من سكانها الأصليين عبر إتمام عملية التهجير التي بدأتها بتهجيرهم من الشمال فالوسط والجنوب ثم إلى سيناء، وهذا كان سبباً أساسياً للحملة العسكرية التي يشنّها جيش الاحتلال على غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي ورغم التعويل على الرفض المصري لهذا السيناريو غير أن التسريبات تشير إلى خيار تهجير السكان بشكل مبدئي إلى غرب غزة في بداية العملية البرية المرتقبة تمهيداً لتهجيرهم نحو سيناء.
ثالثاً: تحقيق الهدف الأول الذي توعد به نتنياهو في بداية التوغّل البري شمال غزة بالقضاء على قادة حماس واستعادة الأسرى المحتجزين، ولم يستطع تحقيقهم في الشمال فهل سيستطيع تحقيقهم في الجنوب!
رابعاً: استكمال القضاء على المقاومة الفلسطينية وفق زعمه
خامساً: أهداف نتنياهو الخاصة بتعويمه عبر تحقيق إنجاز فارغ من مضمونه في غزة بالإضافة إلى مواجهة مطالب عائلات الأسرى، وتأكيده لهم أن القوة العسكرية هي التي تمهّد الطريق لإطلاق الأسرى وليس غيرها، وبالتالي يروي رغبة الشارع المتعطشة للانتقام منذ أحداث طوفان الأقصى
سادساً: السيطرة على محور فيلادلفيا بالكامل، كحل لضرب منظومة الأنفاق
سابعاً: الوصول إلى حقلي غاز غزة مارين 1 و2 والسيطرة على الطاقة الفلسطينية برمتها
وبما أن نتنياهو الآن في مأزق نتيجة الفشل الميداني في غزة ووضعه حالياً كما قال تشرتشل “إذا اخترت بين الحرب والعار فستحصل في النهاية على الحرب والعار معاً”، فإنّ لا خيار لديه سوى اللجوء لمغامرة اجتياح رفح وعليه سيكون تحقيق الأهداف المرجوة من العملية البرية في رفح لتكون سلم نزول لنتنياهو من على الشجرة حيث لن يكون نتنياهو مضطراً إلى إكمال صفقة التبادل التي أعيد استئنافها بعد رفضه لصفقة باريس، وبالحد الأدنى ستؤدي إلى تحسين موقفه التفاوضي في أي صفقة جديدة، مع عملية ضغط لإرغام المقاومة على تغيير موقفها وتقديم التنازلات.
وحينها ستكون إسرائيل قد دمّرت غزة بالكامل، بمساكنها وبنيتها التحتية، لتجعلها غير صالحة للسكن وهذا هو الهدف الحقيقي لإسرائيل، وليس قتال حماس فقرابة الأربع أشهر أثبتت عجز إسرائيل عن تدميرالقدرة القتالية لحماس التي لن تهزم، وحينها ستعلن “إسرائيل” تدمير “البنية التحتية الإرهابية” لحماس وستتخلى عن مسؤوليتها عن مصير الفلسطينيين بالقول “من يريد ألا يموت الفلسطينيون، فليأخذ رعايتهم أو قبولهم في بلدانهم” وفي الوقت نفسه، ستقوم بنقل قواتها إلى الشمال وتبدأ عملية ضد حزب الله في لبنان من أجل تعديل المعادلة مع الشمال لاستعادة هيبة “إسرائيل” والردع الذي تآكل وتضرر نتيجة العمليات النوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان والتي سينجم عنها تصعيد إقليمي سيؤدي إلى جر الولايات المتحدة إلى صراع مع إيران.
ولكن هناك الكثير من العقبات التي تواجه وتقييد جيش الاحتلال في قرار احتلال رفح، بداية من كثافة السكان المدنيين في هذه المنطقة التي تقدر بنحو 1.5 مليون نسمة لجؤوا إليها من شمال غزة وخان يونس والرفض الشعبي المصري والدولي والتصعيد في جبهات الإسناد وربما سنجد جبهات جديدة لإسناد غزة في الصراع وربما تكون الجبهة الجديدة من سيناء أو الجولان أو الضفة الغربية والإحتمالات واردة منها جميعاً وليس إحداها.. ناهيك عن الانتخابات الأميركية والمستويات التي قد تصل إليها المواجهة بين الديمقراطي والجمهوري وارتفاع نسبة التوتر في الداخل الأميركي ومدى تطور حجم المواجهة في البحر الأحمر ومدى تأثير الصراع في أوكرانيا على مجرى الأحداث
باختصار، هناك العديد من السيناريوهات المحتملة أكثرها وضوحاً عدم وجود رادع يمنع إسرائيل من تدمير إمكانية العيش لـ 2.2 مليون فلسطيني في غزة وهو ما يريده نتنياهو من تصعيد في العملية لاستحصال مكاسب سينقلب عليه وسيقدم التنازلات إن لم نقل سيقدمه مستوطنيه للمحاكمة لفشله الذريع السابق واللاحق إذا أخذنا بعين الاعتبار تطوّر عمليات المقاومة واستخدامها صواريخ دقيقة التي من الممكن أن تغيّر المسار وترسم معادلة جديدة إمّا بالتصعيد التدريجي التراكمي، أو نحو جولة قتالية محدودة أو توسيع حدّة الهجمات دون الوصول إلى الحرب في المرحلة الحالية.