العقوبات على روسيا يمكن أن تحتل الصدارة في كتاب غينيتس للأرقام القياسية
• 16500 عقوبة خلال سنتين والحبل على الجرار، وقريبا قد تفرض الولايات المتحدة عقوبات على كل من يتحدث بالروسية
السمكة تفسد من رأسها
لماذا يتفق الجميع تقريبا على أن غورباتشوف هو المسؤول الحقيقي عن الحروب التي جرت بين بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة، وفي داخلها بما في ذلك الحرب الحالية في أوكرانيا، واحتمال اندلاع حرب بين الناتو وروسيا تلغي البشرية بأكملها؟
أتم غورباتشوف جميع الخطوات اللازمة لانهيار الاتحاد السوفييتي، والذي أنجزه يلتسن بالتوقيع عام 1991 على تفكك جمهوريات الاتحاد السوفييتي الذي كان قد تفكك معظمه بفضل غورباتشوف، في حين كان بإمكانه لو لم يكن لديه مخطط آخر أن يقوم من موقع القوة المركزية بتكريس وحدة شعوب الاتحاد السوفييتي انطلاقا من أن أكثر من 76% من المواطنين السوفييت صوتوا لصالح بقاء الاتحاد السوفييتي في استفتاء طرحه غورباتشوف نفسه في 17 مارس- آذار عام 1991 لكنه لم يعمل به، وأهمله تماما حتى بات الناس يتساءلون لماذا أجرى عملية التصويت إذن، نعم كانت مجرد مسرحية، فتنامي مشاعر الانفصال والتوجه نحو الغرب بدأت تظهر في الجمهوريات السوفيتية بفضل الدعاية التي خاضها غورباتشوف فترة حكمه بهجوم ممنهج على الاتحاد السوفييتي، حتى أن المظاهرات التي كانت تطالب بالانفصال والتوجه نحو الغرب، كانت ترفع صوره وتحمل يافطات فيها شعاراته، والطامة الكبرى في تصرف لا يمكن أن يصدر حتى عن مختار حارة في عملية صلح مع الحارة المجاورة، فقد قام عمليا بتحضير كل المسوغات لانهيار حلف وارسو الذي تم في 25 شباط- فبراير عام 1991 دون أن يطلب غورباتشوف من الغرب حل حلف الناتو بالمقابل على أقل تقدير، خاصة إن علمنا أن حلف وارسو نشأ عام 1955 ردا على تشكيل حلف الناتو الذي تأسس عام 1949 ، بل وبدأ بسحب القوات السوفييتية من أوروبا الشرقية منذ فبراير عام 1990 دون أن يسحب الناتو قواته وكياناته، ودون أن يحل نفسه كما فعل حلف وارسو… نعم هناك حيثيات وتداخلات وبواعث ومبررات عديدة تحتاج إلى مقالات عديدة، وخاصة أخطاء المرحلة السوفييتية المترهلة، والتي سمحت أساسا لغورباتشوف بالصعود إلى قمة الهرم، سنتناولها لاحقا.
حصار روسيا من كل الجهات
يمكن اعتبار المقدمة السابقة جسرا تمهيديا للولوج في جوهر ما سنتناوله، وهو العقوبات الغربية على روسيا، والتي تأتي استكمالا للحصار الشامل، والمقصود بالحصار الشامل أنه ليس في تموضع القوات الناتوية حول روسيا جغرافيا وحسب، بل ومحاولة حصار نشاطاتها السياسية: من خلال شد الدول الغربية واليابان وأستراليا لاتباع خطوات واشنطن في تضييق الخناق على روسيا كلما أتيحت الفرصة لذلك، والاجتماعية: من خلال نشر الروسوفوبيا أنّى استطاعوا إلى ذلك سبيلا، الأمر الذي وصل أحيانا إلى عدم استقبال المواطنين الروس في المطاعم الغربية ومضايقاتهم، والاقتصادية: بهذه العقوبات التي سنتحدث عنها بعد قليل ، وحتى الثقافية: بمحاربة الموسيقا الروسية وإلغاء بعض الحفلات لعزف موسيقا تشايكوفسكي، وحتى إيقاف محاضرات عن دوستويفسكي الذي توفي قبل أكثر من 140 عاما، وإزالة تماثيل لبوشكين الذي توفي قبل أكثر من 185 عاما…
وكانت الولايات المتحدة تود إشعال فتيل هذا التناحر من خلال توريط جورجا بالهجوم على أوسيتيا الجنوبية لجس نبض ردود روسيا، وكالعادة في وسائل الإعلام الغربية “الماكرة” تناقلت هذا الخبر بأن الجيش الجورجي قام بالهجوم على تسخينفالي عاصمة أوسيتيا الجنوبية لإعادة النظام، وقمع الانفصاليين في هذه الجمهورية، وقد دفع عدة آلاف بين قتيل وجريح ثمن هذه المغامرة التي لا يشك أحد في أن واشنطن أوصت ساآكاشفيلي بالقيام بها، هذا الهجوم الذي كان عمليا تجربة أولى، قمعتها روسيا خلال ساعات، وكادت أن تحتل تبليسة عاصمة جورجيا، ففهمت واشنطن والدول الغربية أن الدب الروسي لا يقبل المزاح بهذه الطريقة، كان ذلك عام 2008، حيث بدأ العمل جديا على إعداد أوكرانيا لهذا الدور، فهي الأفضل بالنسبة للناتو والغرب من جميع النواحي، أولا التصاقها بالدول الأوربية جغرافيا، ثانيا تنامي حضور النازية منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وذلك بمساهمتها في تفكيكه التي أرهص لها غورباتشوف، ونفذها يلتسن مع الرئيس الأوكراني كرافتشوك، والرئيس البيلاروسي شوشكيفيتش في 8 ديسمبر عام 1991 ، والتي يمكن اعتبارها أول نصر حقيقي عملي كبير للولايات المتحدة الأمريكية حيث بات بإمكانها بناء مخططاتها بسهولة مع أوكرانيا التي بدأت بالفعل منذ ذاك التاريخ تسير بخطى حثيثة نحو الغرب والابتعاد عن موسكو.
العقوبات التي توالدت كالخلايا السرطانية
وهكذا بات واضحا أن خيوط مسار أوكرانيا باتت بيد الغرب، وخاصة واشنطن التي دفعت عمليا لإشعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وكلاعب أوكروبات راحت تشد أنظار العالم بحركات سياسية بهلوانية، وهي تعمق صلاتها بأوكرانيا، وتزيد من تسليحها بعد انقلاب عام 2014 ، وهي تدري تماما أن الحرب قادمة لا محالة، بل أن الحرب يجب أن تقوم، وستكون في كل معطياتها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، -أولا لأنها ستشتعل بعيدا عن أراضيها، وبالتالي لن تعاني من تشظياتها، – ثانيا لأنها ستعطي مجالا واسعا لفرض عقوبات وخاصة اقتصادية ستكون في صالحها أيضا حيث ستبعد منافسا قويا لها في مجالي سوق السلاح وأسواق الطاقة، وحتى في المجال التجاري العام ستكون هي الرابحة لأنها ستسعى لأخذ ما يمكن أن تخسره روسيا، والواقع أن أوروبا هي الخاسر الأكبر في هذا المجال، خاصة أنها باتت تتبع خطوات واشنطن بكل نأمة وتحرك بما في ذلك فرض العقوبات التي تضر بمصالحها أكثر مما تضر بروسيا نفسها.
الأرقام القياسية
فعلا يجب أن تسجل روسيا في كتاب غينيتس باعتبارها الدولة الوحيدة التي صدرت بحقها خلال سنتين فقط أكثر من 16500 عقوبة أي أكثر من عشرين عقوبة يوميا في إطار النسبة، وباتت واشنطن وتتبعها الدول الغربية كالرجل الآلي أو الزومبي تبتكر المبررات لفرض العقوبات، وبات الكونغرس الأمريكي ساحة للمزاودات بهدف زيادة تضييق الخناق، حيث يتزامن عادة فرض عقوبات جديدة على روسيا بتقديم المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، حتى بات الناس في الشارع الروسي يتندرون بأن العقوبات القادمة ستفرض على من يتحدث بالروسية باعتباره نصيرا للحرب الروسية على أوكرانيا.
ولكي تبرر واشنطن موجة العقوبات الأمريكية الجديدة اتهمت روسيا باستخدامها الأسلحة الكيماوية ضد القوات الأوكرانية، والمثير في الأمر أن روسيا تخلصت بقرار جدي من 94% من أسلحتها الكيماوية، ثم تابعت في أيلول تصفية ما تبقى لديها أي قبل اندلاع النزاع بخمسة أشهر، بل إن الرئيس بوتن انتقد الولايات المتحدة لعدم التزامها بالتخلص من السلاح الكيماوي بحجة عدم توفر الموارد المالية. وهكذا فرضت الولايات المتحدة هذه المرة عقوبات على روسيا لأنها استخدمت السلاح الكيماوي غير الموجود عندها!!! والطريف في الأمر أن العقوبات ربطت أيضا باتهام آخر يقول أن القوات الروسية استخدمت ضد الجيش الأوكراني الغاز المسيل للدموع، ولكن الشرطة الأمريكية ما زالت تستخدم الغاز المسيل للدموع لتفريق معظم المظاهرات السلمية المطلبية حتى أن عمدة مدينة بورتلاند أصيب بضيق التنفس نتيجة استخدام الشرطة لقنابل مسيلة للدموع لتفريق مظاهرة شارك فيها عمدة المدينة للاحتجاج على مقتل جورج فلويد على يد الشرطة. لم تكتف واشنطن بذلك إذا فرضت قبل أيام عقوبات عديدة ومتنوعة، فقد أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية توسيع قائمة العقوبات لتشكل 29 فردا أي من الخبراء والمسؤولين، وأكثر من 250 شركة وكذلك 16 سفينة ترفع العلم الروسي، وذلك حسب بيان وزارة الخزانة الأمريكية لتقويض إمكانيات روسيا في الحفاظ على آلتها الحربية، أي استهداف القاعدة الصناعية العسكرية الروسية، وهذا في الواقع يدخل في إطار إبعاد المنافسين في سوق السلاح، وكذلك اتساع هذه العقوبات لتشمل من يتعاون مع روسيا حيث شملت العقوبات العديد من الشركات الصينية و16 عشر شركة مسجلة في تركيا وثلاث شركات إماراتية بحجة أن جميع هذه الشركات تساعد روسيا في الحصول على عائدات توفر لها دعم منتجاتها الحربية، حتى أن أنطونوف سفير روسيا في واشنطن اعتبر أن هدف هذه العقوبات هو تخويف شركاء روسيا، لكنها في الواقع ستنفِّر الدول الأخرى، وتعزز الشكوك حول الدور الأمريكي في الساحة الدولية، عدا عن أنها لن تخيف روسيا.
والملفت للنظر فعلا أن العقوبات الأخيرة وجَّهت حرابها ضد مشروع القطب الشمالي لإنتاج وتصدير الغاز الروسي في محاولة لأبعاد المستثمرين عن هذا المشروع، وذلك يذكر بتفجير خط أنبوبي ضخ الغز الروسي “نورد ستريم” في قاع بحر البلطيق، فكل أصابع الشك تتوجه نحو أمريكا، وبغطاءٍ وتستّرٍ كامل من الدول الغربية، طبعا هذا مُضرٌّ بالنسبة لروسيا وبالنسبة لأوروبا، وفي الحكمة الشعبية حول معرفة الجاني يقال :”ابحث عن المستفيد من الجريمة”، والولايات المتحدة هي المستفيد الأول، حيث سارعت للتعويض عن الغاز الروسي بغازها المسال رغم أنه أغلى بكثير من الغاز الروسي وأسوأ أيضا، حتى أن عضو مجلس النواب الألماني أندريه هونيكو أعلن بوضوح أن بلاده تستورد حاليا الغاز الأمريكي، وهو أغلى بكثير من الغاز الروسي، وكذلك أسوأ مقارنة بالغاز الروسي النقي.