صحافة وآراء

من يتذكّر باقر ابراهيم؟

بقلم عبد الحسين شعبان

عشت سنواتي العشر الأخيرة وأنا أتحايل على الفراق، فما بالك بالغياب الأبدي. وكان منولوجي الداخلي يردّد لم تُبنَ الصداقات لتُترك وحيدة، ولذلك كنت وما أزال شديد الحرص على التواصل، خصوصًا مع من غدر الزمان بهم أو جرت محاولات لإذلالهم وهم أعزاء، أباة، كرماء خلقًا وسلوكًا، ومن هؤلاء الصديق الراحل الكبير باقر ابراهيم الموسوي، المكنّى ﺑ “أبو خولة”، وهي ابنته البكر.

ردّدت مع السيد حسين الصدر:

سيف المنايا مرهف الحدّ… يردي ولا نقوى على الردّ

إنه الزائر الثقيل، الذي يقف حرسًا على أنفاسنا، هذا المتربّص اللئيم، الذي يخطف منّا أصدقاءنا وأحباءنا وأهلنا وذكرياتنا، فلا نكاد نصحو حتى يصلنا خبر رحيل عزيز أو فقدان حبيبة أو موت رفيق أو غياب زميل، لكن تلك هي الحكمة الربانية، “فكل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام” (سورة الرحمن – الآية 26).

لم يبقَ سوى الذكر الطيب والعمل الصالح والخلق الرفيع وحب الخير والتفاني من أجل حياة تليق بالبشر، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ نبيلة وسامية. وحتى حين نُخطئ الطريق، فقد يكون شفيعنا أننا اجتهدنا فأخطأنا، ومن لا يعمل لا يخطئ، وأبدأ بهذه الحقيقة من نفسي قبل الآخرين. فالبشر خطاؤون حسب فولتير، لذلك علينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.

قد لا يرضي مثل هذا الكلام غلاظ القلوب، الذين تسلطوا على رقاب وأرواح ومصائر الناس، فسلكوا طريق الإقصاء والإلغاء والتهميش، في رغبة للتسيّد والهيمنة وإملاء الإرادة، وطالما حصدت الصراعات السياسية والحزبية كفاءات وطاقات كثيرة، وتلك سمة سلبية للحركات  الشمولية، حيث تكون أكثر قسوة على القريب قبل البعيد، فما بالك حين تكون المنافسة غير متكافئة، وتُتبع فيها وسائل غير مقبولة على أقل تقدير.

شغل باقر ابراهيم موقعًا متقدمًا في قيادة الحزب الشيوعي العراقي لنحو ربع قرن، ويعتبر المسؤول الأول عن تنظيمات الحزب دون منازع، وذلك في الفترة من العام 1962 ولغاية العام 1984، وقبل ذلك كان عضوًا في اللجنة المركزية منذ العام 1959، وقد تعرّض خلال العهد الملكي للسجن مرتين، كان آخرها في العام 1957.

وكان سلام عادل الأمين العام الذي استشهد في العام 1963 إثر انقلاب 8 شباط فبراير الفاشي، يعتمد عليه كثيرًا لكفاءته التنظيمية أولًا، ولإخلاصه وتفانيه ثانيًا. فحين عاد أبو إيمان من المدرسة الحزبية ليتولى قيادة الحزب مجددًا بعد محاولات إبعاده والتشكيك بقيادته، وصل إلى البصرة بباخرة سوفيتية. وكان باستقباله وتنظيم خطة نقله إلى بغداد باقر ابراهيم ومحمد صالح العبلّي (استشهد تحت التعذيب في تموز / يوليو 1963)، وظلّ باقر ابراهيم وثيق الصلة بسلام عادل، بما فيه، حين أصبح سكرتيرًا  لمنطقة الفرات الأوسط للحزب الشيوعي.

في العام 1963، كان موجودًا خلال الانقلاب البعثي في النجف مع زكي خيري (أبو يحيى) المعاقب والمنسّب إلى لجنة قضاء الشامية، وعدنان عباس (أبو تانيا)، وكاظم الجاسم (استشهد في العام 1970 في قصر النهاية)، وبعد عدّة أيام قرروا التوجّه إلى الريف للاختباء فيه وساروا مشيًا على الأقدام إلى ناحية العباسية، وأوكلوا أمر قيادة التنظيم المتبقي في النجف إلى محمد موسى (عذّب في النجف وفي الحلّة واستشهد في قصر النهاية في العام 1963).

خلال وجوده في الريف توجّهت مجموعة من الحرس القومي لاعتقاله مع الرفاق الذين كانوا معه، وحصل الصدام بين فلاحين شيوعيين وأفراد الحرس القومي وفي مقدمتهم محمد رضا الشيخ راضي، أحد إدارات الحرس القومي في النجف، فقتل الأخير. ولم تتمكن المفرزة المعنية من اعتقاله ورفاقه الآخرين الذين انتقلوا إلى منطقة ريفية أخرى بحماية الفلاحين.

لم يفقد باقر ابراهيم رباطة جأشه حتى في تلك الظروف والأوضاع القاسية، فظلّ متماسكًا. ويذكر أنه استمع إلى آراء ووجهات نظر أقل ما يقال عنها أنها كانت متطرفة، بل طفولية يسارية، خصوصًا تلك التي دعت إلى مواجهات وردود فعل قصيرة النظر، بل كان يدرك أن على الحزب أن يضمّد جراحه ويلملم ما تبقى من تنظيماته قبل الإقدام على أي عمل قد يقود إلى نتائج لا تحمد عقباها.

حين أعيد تركيب إدارة الحزب (اجتماعات براغ) في العام 1964، وصدر خط آب استرضاءً لرأي السوفييت واقتفاءً بالتجربة المصرية، التي تم تقييم التجربة العراقية وفقًا لمنظورها، كان هو ينظر إلى المسألة من منظار آخر، على أساس التقارب بين القوميين والشيوعيين، وفي العام 1966 خسر موقعه في المكتب السياسي كما جاء في مذكراته، بسبب تمسكه بموقفه، علمًا بأن عددًا من دعاة خط آب انتقلوا إلى ضفة أخرى.

وبعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 ظلّ حريصًا على فكرة الجبهة الوطنية وعلى التقارب مع السلطة، خصوصًا بعد عدد من الخطوات الإيجابية التي اتخذتها على صعيد الداخل أو على صعيد سياستها الخارجية، وفي المقدمة منها صدور بيان 11 آذار / مارس 1970، وتأميم النفط 1972، على الرغم من حملة القمع الشديدة التي تعرّض لها الحزب في الفترة بين هذين التاريخين.

وفي الوقت الذي كان معظم طاقم الحزب الإداري قد غادر العراق، إلّا أنه ظلّ يمسك بتنظيمات الحزب المتبقية، على الرغم من الظروف الصعبة، وتعرّض عدد من الكوادر التي كان على صلة بها للاعتقال، بل إن بعضهم استشهد تحت التعذيب (1970).

كانت وجهة نظر باقر ابراهيم أن نتائج التحالفات تفضي إلى نجاحات ومكتسبات، أما حصيلة الافتراق والاحتراب فتقود إلى انتكاسات وتراجعات، مستنتجًا ذلك من تاريخ الحركة الوطنية، وظل متمسكًا بهذا الرأي حتى آخر أيام حياته، سواءً في فترة الجبهة أو حتى عند فشلها.

وحين اضطّر الحزب بطاقمه الرئيسي وكوادره وأعضائه إلى الهجرة الجماعية بسبب الحملة القمعية الإرهابية التي شنّها الحكم البعثي ضدّه (1979)، بقي الوحيد في العراق من طاقم الصف الأول، ومعه الرفيق جاسم الحلوائي. وقام بما عُرف عنه من خبرة وبراعة بالعمل السري بتأمين هجرة من تبقى من الرفاق، كما ظلّ يحتفظ بالكثير من الحقائق والمعلومات عن تخاذل البعض في تلك الفترة ممن أصبحوا من أصحاب الألسن الطويلة في المنفى، التي طالته وعدد من رفاقه، لكن فمه ظلّ معطرًا ولم يدخل في مهاترات أو تنابزات أو ادعاءات فارغة، وتلك إحدى أهم خصاله الشخصية والإنسانية بعد خصاله الوطنية العالية.

وعلى الرغم مما تعرض له من إساءات وأقاويل وترهّات لكنه لم ينبس ببنت شفة، باستثناء بعض آرائه السياسية والتنظيمية التي غالبًا ما يقولها بحذر شديد وبحسبة سياسية وأخلاقية، علمًا بأن مجموعة من رفاقه الذين كانوا يصطفّون بالدور لمقابلته في كردستان، وقبل ذلك في بغداد أو في المنافي، قدمت رسالة إلى السلطات السويدية تتهمه بالعمل لصالح الأجهزة العراقية لموقفه من الحصار الدولي، وقبل ذلك لموقفه من الحرب العراقية – الإيرانية في مرحلتها الثانية، أي عند احتلال الفاو، ورفضه المشروع الحربي والسياسي الإيراني، وذلك في مسعىً لا إنساني لحجب حق اللجوء السياسي عنه. ولكن السلطات السويدية قدّرت موقفه واعتذرت منه بعد لقاء دام 6 ساعات معه.

وحين أفصح المشروع الإيراني بوضوح عن نفسه، وقف باقر ابراهيم مع الاتجاه المندد بذلك، والداعي إلى حق الشعب العراقي في تقرير مصيره وعدم فرض بديل خارجي عليه أيًا كان. وكان هذا موقف نوري عبد الرازق وعامر عبد الله وحسين سلطان وماجد عبد الرضا وعدنان عباس ومهدي الحافظ وسعدي يوسف وكاتب السطور وآخرين، وهو ما جرى التعبير عنه علنًا بمذكرات ونداءات عديدة. وكنت قد عبّرت عن مثل هذا الموقف، منذ وقت مبكّر، في كتابي “النزاع العراقي – الإيراني: آراء وملاحظات في ضوء القانون الدولي” (1981)، الذي كتب مقدمته باقر ابراهيم.

لم يكن باقر ابراهيم ميالًا إلى عسكرة الحزب، تلك التي تمت كردة فعل على الإرهاب البعثي، لكنه حين تقرر هذا الخط، امتثل له، وشدّ الرحال هو ورفيقة عمره أم خولة. وقد قضيت عدة أسابيع قريبًا منه في نوكان وناوزنك، وهو ما ذكرته في كتابي “بشتاشان – وثمة ذاكرة: شهادة وليست رواية” (2024)، ونحو عام في بشتاشان (1982 – 1983)، وذلك حتى هجوم الاتحاد الوطني الكردستاني الغادر في 1 أيار / مايو 1983، واستشهاد  كوكبة لامعة من خيرة رفاق الحزب الأنصار.

حين اندلع الصراع الحزبي الداخلي لأسباب تتعلّق بالموقف من الحرب وأساليب الكفاح والتحالفات الجبهوية والتفرد والبيروقراطية وغيرها من الوسائل التي سادت على نحو صارخ بسبب ظروف المنفى، اتخذ باقر ابراهيم موقفًا وسطًا. بقي في التنظيم وامتنع عن قبول مواقع قيادية وحاول التبشير برأيه، لكن ذلك لم يرض الاتجاه المتنفذ فاتخذ قرارًا بطرده مع 4 من رفاق آخرين، ويومها كتب متندرًا 5 اجتمعوا فطردوا 5 (والمقصود بالخمسة الأولى أعضاء المكتب السياسي)، أما الخمسة المطرودين فهم: باقر ابراهيم، نوري عبد الرزاق، عدنان عباس، حسين سلطان، ناصر عبود.

وحتى في الصراع ظلّ مترددًا في النشر، بل إنه حاول أن يميّز نفسه عن اتجاه حركة المنبر والجريدة التي أصدرتها، على الرغم من أنه وعامر عبد الله، كانا يبديان ملاحظات بشأن تطويرها، ويقترحان موضوعات لمعالجتها في الجريدة، ويقومان بتوزيع نسخ منها على معارفهما، لكن باقر ابراهيم بقي متحفظًا إزاء قيام أي كيان تنظيمي أو هيكل موازي، على الرغم من أنه من الناحية الفعلية كان يمارس ذات الدور دون إعلان. يومها مازحته بطريقة مملحة بقولي: قضيت أكثر من نصف عمرك تخاف على الحزب، واليوم تخاف من إدارته… فحدّق بي مطولًا ثم ضحكنا بحرقة.

وبعد الحرب على العراق (1991)، كان موقفه ضدّ الحصار وضدّ الاحتلال الأمريكي (2003) فيما بعد، وحاول أن ينشط في إطار المؤتمر القومي العربي، وربطته بخير الدين حسيب علاقات طيبة، وحاول أن يشرح مواقفه لقيادات المقاومة الفلسطينية وبعض القيادات العربية.

كان باقر ابراهيم صديقًا لخالي رؤوف شعبان، وفي مرحلة دراسية واحدة، وكنت قد عملت معه في إطار التنظيم الجديد في العام 1963 بعد إطلاق سراحي من معتقل خان الهنود (السراي الحكومي)، وكان صلة الوصل عدنان الخزرجي في لجنة ضمت: محسن القهواتي وصادق مطر وجبار (كفاح) سميسم وعلي الخرسان وكاتب السطور، وكنّا نتلقّى توجيهات مباشرة منه ، كما علمت لاحقًا.

وخلال عملي الحزبي، كم من مرّة اختلفت معه، بما فيها خلال المفاوضات الطلابية في نهاية العام 1969، وكم من مرّة جاءنا مشرفًا، وكم من مرة تباعدت وجهات نظري مع وجهات نظره خلال الصراعات الحزبية، في دمشق وفي كردستان كذلك، والخارج أيضًا، لكنه ظلّ كما كان ودودًا ومخلصًا ولم تتأثر علاقاتنا بسبب اختلاف الرأي وتعارض المواقف وتباين الوسائل حتى مع الاتفاق أحيانًا.

وفي سنوات إبعاده وعزلته ومحاربته، كنت شديد الحرص على زيارته في منفاه السويدي في هلسنبورغ، وفي لقائه حين يحضر إلى بيروت أو إلى الشام، وكانت آخر مرّة أزوره فيها قبل نحو عامين بصحبة الصديق محمد السعدي وعلي شعبان ابن أخت الشيخ وهاب شعبان رفيق باقر ابراهيم، وذلك في منزل ابنته خولة وبحضور نجليه ابراهيم وعلاء.

عاش باقر ابراهيم بكبرياء وتواضع في الآن. زاهدًا لا يحب الظهور، متسامحًا غير ميال إلى الإقصاء. وطنيته طافحة، وعروبته من صميم عقيدته الأممية، ليس ادّعاءً ولا مناكفةً، بل هي جزء لا يتجزأ من هويته الثورية.

من يتذكر باقر ابراهيم؟ حيث الامتيازات والنياشين والكراسي، تلك التي هيمنت على المشهد السائد… ربما هناك من سيسأل، ومن هو باقر ابراهيم؟

ولعلّ نهر الفرات ودواوين النجف وحارات بغداد ونخيل البصرة وشط العرب وجبال كردستان ستخبرنا من يكون ذلك المناضل الشيوعي النزيه…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى