صحافة وآراء

كائنات السمندر الذي تحدث عنها “تشابك” ظهرت فعلا في النازيين والأمريكان والصهاينة

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• كائنات لا مشاعر وجدانية لديها لا تضحك ولا تمزح ويهمها تكريس مصالحها وحسب حتى لو على حساب دمار الكوكب الأرضي
كتب الروائي التشيكي المبدع في مجال الخيال العلمي كارل تشابك هذه القصة المذهلة عام 1936 ، وهو فيها يستشرف الأوضاع المتردية في العالم الذي كان في مرحلة ارهاصية، وبالتالي تنبأ عمليا بأن أنماط بشرية ستظهر خالية من المشاعر وستسعى لتحقيق مآربها حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى هلاك البشرية وتدمير الكوكب الأرضي.
طبعا خلق معادلا لهذه التجمعات البشرية في رمز ابتكره بإتقان عبر كائنات تتطور مع تطور حيثيات الرواية، كما تتطور تلك الكائنات مع تملكها للسلطات في بلدان معينة، وهو وإن لم يحدد البلدان التي ستظهر فيها هذه التجمعات البشرية الخطيرة إلا أنه رسم الكائنات الي ابتكرها بحيث يستطيع أي منا تقدير إلى أي مدى تنطبق ممارسات ومطامح هذه الكائنات مع النماذج البشرية التي تشابه أفعالها وأهدافها أفعال وأهداف هذه الكائنات العجيبة.
ويمكن القول بعد مرور قرابة تسعين عاما على كتابة الرواية أن استشراف كارل تشابك للمستقبل ينطبق على ثلاثة تجمعات بشرية لا كدول وشعوب بل كاتجاهات سياسية وعسكرية للسيطرة على العالم وهي واقعيا: 1- النازية والفاشية 2- الناتو وخاصة قوات الولايات المتحدة فيه وخارجه 3- الصهيونية.

الرواية
يكتشف “فانتا” قبطان السفينة “كاندون باودونغ” التي تعمل في صيد اللؤلؤ كائنات برمائية شنيعة الشكل هي نوع من العظاءات ” السمندر” قابلة للتطور بشكل سريع، فيلتجئ إلى رجل أعمال لإشراكه في استغلال هذه الكائنات في صيد اللؤلؤ، يتم التفاهم مع العظاءات كي تصيد اللؤلؤ لهم مقابل أن يعطوها نصالا وحرابا وأسلحة بيضاء في البداية لتدافع عن نفسها من القرش، ثم سرعان ما تتنامى العلاقة معها، وتتطور هذه الكائنات وتتعلم عدة لغات، وتتنافس الشركات على استخدامها فهي لا تطلب أجرا بل مجرد طعام وأسلحة خفيفة للدفاع عن نفسها، وتسعى حتى الدول الرأسمالية الكبيرة لاستغلالها وتوفير أجر الأيدي العاملة، فتبني أحواض هائلة لتربيتها، وتستخدم السمندر حتى في بعض المشاريع، ومن ثم يبدأ السمندر بطرح مطالب نفعية كالحصول على أرخبيلات وبعض السواحل للتكاثر وبناء مستعمراته المائية، وفيما بعد تستخدمه بعض الدول في قواتها البحرية لحسم صراعاتها مع الدول العدوة ، وتصل الأمور إلى توقيع اتفاقيات مع السمندر، ويتوضح أن هذه الكائنات بلا عاطفة، وهي حتى لا تمزح ولا تضحك، وإنما تفكر بمصالحها وحسب، ثم تبدأ بالمطالبة بتوسيع مستعمراتها حتى تغدو قوة ضاربة وبأعداد هائلة، فتبدأ حربها ضد البشرية، وهنا تظهر المفارقات التي تميز المجتمع البشري النفعي، فتظهر الصراعات والتناحرات القومية والعرقية التي يستفيد منها السمندر، ثم تتم اتفاقيات سلام مع هذه الكائنات، ويتابع السمندر إغراق الأراضي وتسعى كل دولة لتأمين ما تستطيع من امنها بالاتفاق مع السمندر ولو على حساب أمن دول أخرى، بل إن بعض الدول تفرح بإغراق دول خصمة لها، وتفرح دول لأنها غير ساحلية أو أن أراضيها في الجبال غير آبهة بغرق الدول البحرية.. وتشتعل حروب..

الجوهر
أراد كارل تشابك إذن أن يوضح أن هناك أعدادا غير قليلة من البشر لا عواطف لها، وهي مستعدة أن تضحي بكل شي حتى بدمار الكوكب الأرضي لتحقيق مصالحها، والمهم أنه يشير بوضوح إلى أن الذين يساهمون بفناء البشرية هم أصحاب البنوك ورؤساء الدول الذين يدعمون “السمندر” أي من يمثلهم من البشر، ثم يرى أن الحل الوحيد للقضاء على السمندر الذي خلق حروبا، وهاجم الأساطيل، الحل هو أن نعلم هذه الكائنات الطباع البشرية لكي تقاتل بعضها بعضا وتقتل أبناء جنسها.
لا بد من الإشارة إلى أمر بالغ الأهمية فنيا، وهو أن كارل تشابك يسوق الأحداث بحيث يجعلك تقتنع تماما بوجود هذه الكائنات بصياغة تجعل الخيالي جدا واقعي جدا، وذلك باستخدام الوثائق والتواريخ والمعطيات العلمية وحتى البيولوجية، وهو يغوص عميقا في النفس الإنسانية وتناحر المجتمعات، ويترك الكاتب لخيالك وتقديراتك أن تسقط حالة السمندر على المجتمعات التي ترى أنها أقرب إلى طبيعة هذه الكائنات.

إسقاطات
ولنلاحظ هذه اللقطات النوعية ففي الرواية يتم الحديث عن اتفاقات مع السمندر لتقديم اللؤلؤ مقابل الأرض التي سيغرقها السمندر ولقاء السواحل الجديدة التي سيحصل عليها، ألا يذكرك ذلك بشعارات رفعها المعتدون الصهاينة كالأرض مقابل السلام، طبعا ضمن تفسيرهم هم، وكذلك الأمريكيون الذين يشبهون السمندر، والذين تاجروا حتى بالدم العراقي وكانوا عمليا وراء قرار مجلس الأمن الدولي 986 الذي طرح برنامج النفط مقابل الغذاء عام 1995 كتمهيد لإضعاف الاقتصاد العراقي وتنفير الشعب تمهيدا للغزو بعد سنوات، ثم إن الرواية تطرح بشكل غير مباشر وعودا تذكر عمليا بوعد بلفور حين تعد بعض الدول المتنفذة السمندر بمنحه سواحل جديدة كي يستوطنها، ألا يذكر هذا بشكل صريح بوعد بلفور للصهاينة بأرض فلسطين؟ على مبدأ “أعط ما لا تملك لمن لا يستحق”
طبعا موضوع أن السمندر كائن بلا عاطفة كان جوهريا في الرواية لأنه يرمز بشريا إلى أناس متحجرة قلوبهم، الذين يمارسون كل شيء وفق المبدأ الميكيافيلي “الغاية تبرر الواسطة”.

الحكمة التحذيرية
بات السمندر أخيرا -وفق الرواية- يلمح إلى أنه آجلا أم عاجلا سيسيطر على الكوكب الأرضي، ويضع شروطه لكيلا يتم حل (القضية) بشكل حاسم، وإنما لكي يتم تنفيذ مآربه تدريجيا ، ويحمل تشابك على المجتمعات الغربية – بالدرجة الرئيسية –لأنها لا تتوخى سوى مصالحها المنفردة حتى في ظروف استثنائية تهدد العالم بأسره، تلك البشرية التي تغاضت وتهادنت بل وساعدت على تكريس ظاهرة السمندر طمعا بالأرباح وتوسيع مناطق النفوذ حتى إبان وجود تحذيرات مبكرة عن (خنجر السمندر في ظهر العالم) ما يذكر بكتاب ( خنجر إسرائيل)، والكتاب عبارة عن وثائق حلف بغداد حصل عليها الصحفي الهندي كرانجيا، بعد عام 1958، وكان من ضمن الوثائق خطة اسرائيل للأعوام التالية، التي تتحدث عن تقسيم العراق إلى ثلاث دول، ولبنان إلى خمس دول، وسوريا إلى ثلاث دول، وإلى شن حروب مباغتة، في هذا المجال يوغل (تشابك) في إظهار هذه المفارقات عبر استشراف عبقري للمستقبل ، فحين تبدأ الحرب مع السمندر، وتغرق أسرابها أساطيل بريطانيا التي تدرك أن المواجهة يجب أن تكون جوا، وعليها بناء مائة ألف طائرة حربية تحتج الدول الأخرى بأن ذلك سيخل بميزان القوى ..!! ويكرس كارل تشابك سخريته من المجتمع البشري غير العادل، ذاك المجتمع الذي يتناحر ويتنافر مكرسا الغنى والفقر والمثقف وغير المثقف العبد والحر والحاكم والمحكوم، مشددا على أن القوانين والتعهدات بعدم إبادة الآخرين – دون الالتزام بها – ماهي إلا قشرة سخيفة سرعان ما تتفسخ أمام معطيات الواقع، وأن البشرية عبر آلاف السنين كرست جوهرها في تعميق التناقضات بين الشعوب، وفشلت في جعل بني جنسها وحدة متكاملة سعيدة، بل جنت على نفسها، ودفعت الطبيعة لإيجاد البديل، وهو السمندر الذي يحافظ بقوة على وحدة جنسه… المهم في الأمر أن الكاتب يوغل في حقيقة التناحرات القومية والعرقية وصراع المصالح التي تلعب دورا محوريا في تكريس تفوق السمندر مستقرئا أجواء القادم بعد عشرات السنين.. إذ يصل الكاتب إلى النقطة المحورية الأهم، وهي أن السمندر بدأ بوضوح يعلن عن خططه للاستيلاء على العالم، ومقايضة البشر بوجودهم – هكذا – حيث يوجه رئيس السمندر نداء إلى البشر يؤكد فيه أن – قومه – لا يريدون الحرب مع الجنس البشري، ويعرضون علي البشر التفاوض ويقدمون ما هو أكبر من ذلك بأريحية: الآن أفضل لكم من الوضع في المستقبل لأنكم ستحصلون على شيء ما لقاء فنائكم التدريجي.. أما هدف السمندر فلا رجعة عنه !!. تتفاوت المواقف وتتباين لكنها عند كارل تشابك تلتقي في أمر محوري، هو أن كل دولة وشعب وسلطة تفكر في مصالحها حتى الواهمة وكأنها بمنأى عن هذه الحرب وهذه النتائج، حتى أن حوارا شيقا بين أحد أبطال الرواية السيد (بوفوندرا) وابنه يوضح أن المجتمعات والدول كالأفراد في صياغة الفجيعة وتحملها تمسكا بإحساس مؤقت ساذج وهو أن الحبل الآن ليس حول عنقي. إذن لا علاقة لي بما يجري، فالمياه البحرية التي يوسعها السمندر حسب سياق الرواية وصلت إلى دريزدن، والسيد بوفوندرا يعبر عن فرحته لأن ألمانيا بدأت تزول عن الأرض، والنقمة باتت نعمة لأن بلاده ليست لها سواحل بحرية يمكن أن يتغلغل منها السمندر أما الألمان فهذه مشكلتهم…!!
فمتى تستفيد البشرية من الدروس الحكيمة التي قدمها تشابك عبر روايته الرائعة هذه، أليست أخلاق المجتمع الغربي العنجهية وفرض وجود قوات الناتو على الحدود الروسية هو نوع من المقامرة بالوجود البشري.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى