فلسطين

سبع وخمسون سنة على حريق الأقصى المتواصل

بقلم فضل المهلوس

سبع وخمسون سنة ويزيد مضت على سقوط أسوار القدس في براثن هولاكيّي العصر الصهاينة والمتصهينين، وكانت هذه الأسوار قد بُترت حدائقها الغربية الغنّاء قبل ذلك بتسعة عشر حولاَ ويزيد…

ولأنهم تتار العصر، ولأننا فلسطينيو الجذر، كان في كلّ ثانية من تلك السنوات العجاف “سِفْرَ” ظلام وهلاك يوازيه ويعاكسه مشاعل نور وثبات.. وظلَّ الاقصى وقبة صخرته شامخاَ يئنّ بصمت، وأنموذجاَ فريداَ بل ومتفرّداَ للأصالة والعراقة والتحضّر في مقارعة همجيّة الطارئين وبربرية العابرين، وهو الذي خَبِرَ أمثالهم في صفحات تاريخه التليد.

تعود بيَ الذكريات، وأنا لم أبلغ التسع سنوات بعد، عندما تصدّعت أذناي الصغيرتان بنعيب أولئك التتار الذي ملأ أزقة القدس العتيقة منتشين كذئب استحكم فريسته: “فليحيا موشيه دايان اللّي نصرنا عالعدوان”. لم أكن أدرك وقتذاك مَن هذا الدايان وما العدوان، لكنني أيقنت بعدها أنني قد فقدت طفولتي، وأنني أيضاَ كنت المقصود من حيث لا أدري بكلمة “العدوان”، وأن هؤلاء الغرباء تقاطروا من كلّ حدب وصوب ليسرقوا الطفولة، ويقلبوا مفاهيم الحقّ والباطل، ويزوّروا الماضي والحاضر والمستقبل!!

وما زاد من يقيني ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم، يوم الحادي والعشرين من آب 1969، عندما أقدم الخفّاش الأسترالي المتصهين “دينيس مايكل روهان” على فعلته النكراء لإحراق المسجد الأقصى مبتدئاً بمنبر صلاح الدين وما أدراه ما صلاح الدين ورمزية منبره، وهو الذي حضر للتو “سائحاَ” ليفعل فعلته ويُعاد لموطنه على عجل مشفوعاً بوسام “الجنون” وما أكثر مَن تقلّده منهم..!؟

ليلتها، ويا للمفارقة، تشاركنا نحن الفلسطينيون المقدسيون، مسلمون ومسيحيون، مع إبنة “كييف” الأوكرانية “جولدا مئير” الأرق والقلق: هي التي سوّل لها خيالها أن “العرب سيدخلون إسرائيل أفواجاً من كل مكان” لكنّها مع طلوع الصباح ولم يحدث شيئاً قالت منتشيةً: “أدركت أن باستطاعتنا فعل ما نشاء فهذه أمة نائمة”.. أما نحن فقد أدركنا قيمة قدسنا وأقصانا و”قيامتنا”، وما يُدبّر لنا وينتظرنا من مسؤوليات جسام ويقظة مستدامة، وأن سلاسل “الدلو” في الأيادي المتشابكة والقلوب المتحدة التي جهدت في إطفاء الحريق هي نبراسنا الوحيد نحو السلامة والانعتاق وبزوغ فجر الحرية والاستقلال. والأهم، وهنا بيت القصيد، أن زمان “وا مُعتصِماه” قد ولّى، رغم البوْن الشاسع في المكانة والقداسة ما بين “عمورية” وقدس الأقداس. فكان مُذّاك أن شمّرنا عن سواعدنا ومَعاصِمنا مرددين “وآ مِعصَماه”، ومستحضرين قول الشاعر الجاهلي عمرو بن ربيعة الزبيدي: ” لقد أسمعت لو ناديت حيّاً   ولكن لا حياة لمَن تُنادي”.

صحيح أن المعوَل ذات المعوَل، لكن المِعصَم غير المِعصَم، فشتّان ما بين معوَل هدم وفناء ومعوَل عطاء وبناء.

وعوْد على بدء، يبدو أن أولاد وأحفاد “روهان” قد راهنوا واهمين على أن الفرصة الآن باتت سانحة كي يعيدوا الكرّة مراراً وتكراراً، وما عزّز من أوهامهم ـ مع بالغ الأسى والأسف ـ ما يشاهدونه بل ويشاركون في صناعته ما آلت إليه أحوال العرب والمسلمين من أهوال، حيث ضاعت البوصلة ومعها تاهت القِبلة وتبعثرت بل وتضادّت الأهداف، وبات كلّ من بعضنا يغنّي على ليلاه أو بالأحرى على ليلى مولاه، وغدا بعضُنا يأكل بعضَنا، وامتهن بعضنا صناعة أصنام من “الزبدة” الممزوجة بالأوهام، وأضحت أموالنا وثرواتنا وما نملك مُسخّرة لقتلنا ومعاول هدمنا وتدميرنا.. وكلّ هذا وذاك وما عداه يصبّ في بوتقة الأرباح الخالصة الصافية لأعدائنا وحتى بلا أيّة تكاليف…

لكن، كدأب كلّ الطغاة والمستكبرين على مرّ العصور والسنين، يتناسى الصهاينة والمتصهينون، ومعهم الواهمون الخاذلون والمخذولون، أن للكوْن سنناً حتمية أهمها دمغ الحق للباطل ولو بعد حين بغض النظر عن مقدار هذا الحين، وتساقط الأوهام الصفراء تباعاً على أرضية الحقيقة الراسخة. والحقّ هنا أن “صخرة” الأقصى المقدسة حيث المعراج والصعود إلى السموات العُلى، هي بوصلة الحقيقة، والفيْصل بين الفوْز والخُسران المبينيْن… ولأننا كفلسطينيين، ومعنا المستيقظون من العرب والمسلمين وأحرار العالم وهم كُثر، ندرك يقيناً هذا الحقّ وتلك الحقيقة “النبوءة”، لا نزال على الحقّ ظاهرين لعدوّنا قاهرين لا يضيرنا من عادانا وخذلنا ونحن في رباط إلى يوم الدين وإننا لمنتصرون بحوْل الله… وهنا نستذكر موقنين تكرار الشهيد “الختيار” القائد الخالد أبا عمّار: سيرفع شبل من أشبال فلسطين وزهرة من زهرات فلسطين عَلَم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس وأسوار القدس.. القدس عاصمة دولة فلسطين، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى… وبالمعيّة نُذكّر الآخرين كلّ الآخرين بالقوْل المأثور للشاعر الجاهلي طرفة بن العبد في مُعلّقته:

ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً    ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوّد

فعند فلسطين الخبر اليقين.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى