يا غزة الجريحة،
أتحدث إليكِ اليوم بعقل مكلوم وقلبٍ مثقلٍ بأحمال الألم وحبرٍ مشبعٍ بدموع العجز.
غزة، يا أمَّ الأوجاع والأمل القادم،
يا من تحملين في قلبكِ ألم العالم بأسره، تحتضنين آلامكِ بصبرٍ وجلد، تَلتفين بجراحكِ كما تَلتف الأم بطفلها في ليالي الشتاء القارس.
أراكِ كأنكِ نخلةٌ عتيقة تضرب بجذورها في عمق الأرض،
تتحملين عواصف الغدر، زئير الرياح العاتية، وصخب الرعود، ورغم كل ذلك تظلين كالجبال شامخة، ترفضين الانكسار، دموعك كأنها لآلئٌ من السماء، تحضنين أبناءكِ بحنانٍ يذوب الحجر، تسهرين على جراحهم، تواسينهم بصوتٍ ملائكي، تحاولين زرع الأمل في قلوبهم، بينما جراحكِ أنتِ تنزف بلا توقف.
أخاطبكِ اليوم كأمٍ تتضرع الآلام على أبنائها، تتألم في صمتٍ وهي ترى فلذات أكبادها يُسحقون تحت وطأة القهر والظلم. أنتِ يا غزة، الأم الحانية، الأم الصابرة، التي تتجرع الألم من أجل أبنائها، تصرخين في صمت، تبكين وتتحملين أكثر مما يتحمل البشر أمام وحشية المحتل الغاشم، تستحقين كل الاحترام والرحمة.
كيف لي، كطبيبة، أن أصف حجم عجزكِ؟ كيف لي أن أصف شعوري وأنا أرى جراحكِ تتعمق، وآلامكِ تتزايد؟ كلما حاولتُ أن أمد يدي لعلاجكِ، أجد نفسي مكبلة، مقيدة بأغلال الواقع القاسي. أحاول أن أكون لكِ البلسم، أن أخفف من أوجاعكِ، لكن كل محاولة تبدو ضئيلة أمام عظمة معاناتكِ. أشعر بالاختناق كلما فكرت فيكِ، يا غزة. كيف لي أن أكون طبيبة ولا أستطيع شفاء جراحكِ؟ كيف لي أن أكون إنسانة وأرى آلامكِ تتزايد يوماً بعد يوم؟ أرغب في أن أضمكِ بين ذراعي، أن أكون لكِ الأمل، لكنني أجد نفسي عاجزةً أمام عظمة مصيبتكِ.
كطبيبة أقف أمام شاشات الأخبار أشاهد مأساة مكتوبة بدماء الأبرياء وصيحات الأطفال. أنا التي خُصّصت حياتها لشفاء الجراح وتخفيف الآلام، لأعيد البسمة على الوجوه. لكن أمام معاناتكِ، أشعر بعمقٍ بأن ما أملكه من علمٍ ومعرفةٍ لا يكفي، بل يبدو كالنقطة في بحرٍ من الألم. أتمنى لو كانت هناك وصفة سحرية تداوي جراحكِ فتندمل، تمحو الحزن من عيون أطفالكِ فتفرح، وتداوي القلوب المكسورة لأمهاتكِ فتسكن، وتجلب الراحة لأبطالكِ الجرحى.
كلما نظرتُ في عيون المرضى المتألمة، أتذكركِ يا غزة. أتذكر وأوجاعكِ أعظم من أن تُخفف بكلمات المواساة.
كلما سمعتُ صرخاتك التي تمزق السماء ولا تجد لها مجيبًا، يتضاعف في داخلي الشعور بالعجز وقلة الحيلة، أجد نفسي مكتوفة الأيدي أمام أوجاعك، كأن علمي ومعرفتي قاصران أمام بحرٍ من الأحزان التي تتقاذفكِ، كيف لي أن أداويكِ وأنتِ تفيضين بعمق الجراح وبالأوجاع؟ كيف لي أن أضمد جراحكِ وأنتِ تُستباحين ليل نهار؟، إنك رمز الصمود والشجاعة.
في ليالي الصمت، عندما أضع رأسي على الوسادة، أستمع إلى صدى آلامكِ يتردد في أذني، أستشعر عجزًا يتغلغل في كل ذرة من كياني، كالسيف يغرز في قلبي، يتسلل إليّ شعور بالذنب. كيف يمكنني أن أعيش بسلام بينما هناك في مكان آخر أهلي يعانون؟ كيف يمكنني أن أبتسم بينما هناك أطفالٌ يبكون؟ أشعر بأن مهمتي كطبيبة لم تكتمل، لأنني لم أتمكن من الوصول إليكِ يا غزة، لم أتمكن من تضميد جراحكِ وتخفيف ألمكِ.
أصرخ في حلمي: “يا ناس، إن غزة تنزف، إن غزة تستحق الحياة!”. أحاول أن أكون لكِ صوتًا وأملًا، لكن صوتي يضيع في ضجيج العالم القاسي، والقلوب تتصلب أمام الحقيقة.
أشعر بأنني أمام معضلة تفوق مقدرتي، لكنني ومع كل هذا العجز، أريدكِ أن تعلمي أنكِ لستِ وحدكِ. نحن هنا، بقلوبنا وعقولنا، نشارككِ الألم ونصلي من أجلكِ، ستظلّي شمعةً مضيئة في ليل العالم، والقوة التي لا تنهزم، سأظل أصرخ عالياً وأنادي العالم، بأنك تستحقين أن تعيشي بكرامة وسلام.
يا غزة، الأم القوية، الصابرة، يا أم الأحلام، لن أختم رسالتي هذه بالدموع، بل بالأمل الذي يفيض بالنور، بأن يأتي يومٌ تعود فيه الحياة إلى طبيعتها، تتعافين فيه وتعودين كما كنتِ، بل أقوى وأجمل، يومٌ يضحك فيه أطفالكِ، وتزهر فيه أشجاركِ، يومٌ تنقشع فيه الغيوم السوداء وتصفو سماؤك وتشرق فيه شمس السلام على ربوعكِ.
وحتى يأتي هذا اليوم، سأظل هنا، أحمل في قلبي حبكِ، وفي عيني أملكِ، وفي يدي علمي، سأظل أعمل وأسعى، لعلي أتمكن يومًا ما من تحقيق الحلم بشفائكِ وتخفيف ألمكِ.
مع أطيب التمنيات لك وأصدق الدعوات، وكل الحب والتقدير لزملائي الأطباء الذين يدفعون حياتهم ثمناً من أجل شفاء جراح أبناءك.