• الهدف في الإقالات وقبول الاستقالات ليس إيقاف المد الانتحاري الذي تفرضه واشنطن، بل قمع أيّة أصوات تعارض هذا النهج
الناطقون الرسميون باسم المؤسسات الحكومية الرئيسية يكونون عادة محط أنظار المتابعين والمحللين، وخاصة في الأوساط السياسية والصحافية، فإما أن يصبحوا مجالا للتندر كما حدث أكثر من مرة مع الناطقين الرسميين في المؤسسات السياسية والدبلوماسية الأمريكية الذين بدوا وكأنهم يتبعون نهج رؤسائهم في الأخطاء والجهل في المعلومات، وإما أن يصبح النابهون من الناطقين الرسميين مجالا للإعجاب ولفت الأنظار على سرعة البديهة والدقة في التعبير والوصف المعبر الجميل، من ذلك ما تفضلت به الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا حيث وصفت الوزراء وكبار المسؤولين الأوكرانيين نتيجة تقديم العديد منهم استقالته إلى البرلمان، بأنهم يتساقطون كأوراق شجر الخريف!
ما هي اللقطة هنا، أولا: التزامن فيما يسمى بالبلاغة العربية القرينة، فقد استفادت زاخاروفا من حلول الخريف فعلا، وبالتالي سيذكر الناس تشبيهها للمسؤولين الأوكرانيين واستقالاتهم طيلة الشهرين القادمين كلما مروا بالشوارع ولاحظوا تساقط أوراق الشجر، والأمر الثاني أنها استفادت من واقع بدا غريبا نوعا ما في تلاحق الاستقالات فعلا بل وتسارع الاستقالات والإقالات خلال العام المنصرم حيث أقال زيلينسكي وزير دفاعه ريزينكوف تحديدا في سبتمبر الفائت، ثم تمت الإقالة المدوية بإقالة زالوجني قائد الجيش الأوكراني بداية فبراير – شباط الفائت، ثم تعيينه فيما بعد سفيرا في بريطانيا كنوع من الترضية، لأن إقالته لا يمكن تفسيرها إلا باتجاه واحد، وهو أنه لم يكن كفؤا، وبالتالي تحميله جريرة كل الهزائم خلال السنتين اللتين سبقتا إقالته، وتعويضه عن الطعن في إمكانياته العسكرية التي تصل على المستوى الأخلاقي إلى الطعن في شرفه، بما يمكن أن يجني في منصبه الدبلوماسي الجديد وخاصة في بريطانيا، العدوة اللدودة لروسيا.
لكن باعث الخبر هذه المرة كبير حقا فقد أعلن رئيس البرلمان الأوكراني رسلان ستيفانشوك أن وزير الخارجية دمتري كوليبا قد قدم طلبا لاستقالته، وأن البرلمان سينظر في الطلب قريبا، وأوضح رئيس البرلمان الأوكراني أن كلا من وزير العدل ووزير الصناعات الاستراتيجية ورئيس حماية البيئة ونائب رئيس الوزراء لشؤون التكامل الأوروبي قد قدموا استقالاتهم أيضا، هذا ناهيك عن أن زيلينسكي كان قد أقال قبل أيام معدودة قائد القوى الجوية بسبب اسقاط طائرة اف 16 الأمريكية التي طال انتظارها، والتي وصفتها التعليقات الأوكرانية بالمعجزة التي سترجح كفة القوات الأوكرانية في المعارك، وإذ بها تسقط بعد أيام من وصول دفعة منها إلى أوكرانيا، تسقط بصاروخ أمريكي من منظومة باتريوت الأمريكية ولكن بأياد أوكرانية، وهذا يوضح أمرين أن هناك عيوبا كبيرة في هذه الطائرة، وأن الطيارين الأوكرانيين لم يستطيعوا استحواذ آليات عمل هذه الطائرة كما أوضحنا في مقال سابق بمعنى أنها لن تصمد لا أمام المضادات الروسية، ولا أمام الطيارين الروس وخاصة إن كانوا على متن طائرات روسية من الجيل الخامس كسوخوي سبعة وخمسين.
ذهبت إذن أدراج الرياح آمال الحكومة الأوكرانية في تحقيق انتقال نوعي يقنع الغرب بتوسيع المساعدات، حيث يرجح أن تآكلها سيصل إلى منعطف يؤدي إلى حلها نهائيا كحكومة فاشلة، والحقيقة أن أوكرانيا تنفخ في قرب مثقوبة، وأوروبا تقامر على جيش كل ما يستطيع فعله أن يفرقع فقاعات الصابون في الهواء، ثم ينسحب من مواقعه الواحد تلو الآخر، وحتى كورسك باتت فخا حقيقيا حيث خسرت أوكرانيا في هذا الجيب الصغير قرابة عشرة آلاف جندي خلال شهر واحد، ويبدو أن القوات الروسية ارتاحت لهذا المآل فوسعت سيطرتها على بلدات جديدة شرق أوكرانيا، ويرجح أن الإقالات والاستقالات مرتبطة بهذا الشكل أو ذاك بهذه الخطوات العبثية التي تتخذها القيادة الأوكرانية بإيعاز من واشنطن التي يهمها تحقيق أية لعلعة جوفاء يمكن أن تساهم في رفع رصيد الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الوشيكة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن موسكو تنظر إلى الانتخابات الأمريكية بعيون واقعية، وليست لديها أية أوهام حولها حيث أعلن بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين أن موسكو تعتقد أن سياسة الولايات المتحدة لن تتغير إثر الانتخابات.
من جهة ثانية كان بديهيا أن تحذر موسكو من مغبة السماح لأوكرانيا بقصف عمق الأراضي الروسية بأسلحة غربية الأمر الذي أسفر عن درس لا يخلو من قسوة، حيث شنت القوات الروسية هجوما واسع النطاق على مناطق أوكرانية تتوزع بين أواسط أوكرانيا في بولتافا وأقصى غربها في لفوف قرب الحدود البولونية مرورا بالعاصمة كييف، قصف مدمر أوقع المئات بين قتيل وجريح، ما اعتبر ردا على استهداف القوات الأوكرانية العاصمة موسكو، وبعض المصافي النفطية وأسفر الهجوم بالمسيرات عن سقوط بعض القتلى والجرحى، فجاء الرد بحيث يدفع كييف إلى أن تفكر عدة مرات قبل أن تستهدف مواقع حساسة ومدنية روسية.
موضوع تساقط المسؤولين والوزراء الأوكرانيين بات حديث الشارع والأوساط السياسية معا، ويرجح أن يتم استكمال الإقالات وقبول الاستقالات لما يقارب نصف أعضاء الحكومة خلال الأيام القليلة القادمة، فلماذا إذن يتم الإبقاء على هيكلية سلطة تنفيذية تفقد ركائزها البشرية… أغلب الظن أن الهدف ليس إيقاف المد الانتحاري الذي تفرضه واشنطن، بل قمع أية أصوات تعارض هذا النهج الذي يتلخص بضرورة محاربة روسيا حتى آخر جندي أوكراني.
شخصيا أرجح أن تخطو أوروبا نحو مزيد من الولاء لواشنطن في دفع أوكرانيا إلى مزيد من المغامرات، فالذي يدفع الثمن هم الأوكرانيون بأرواحهم، ولا يستثنى أن تقوم بعض الدول الأوربية فعليا بتشكيل فرق عسكرية من الأوكرانيين الشباب وحتى سن الأربعين ممن لجأوا إليها، وذلك لإرسالهم كمتعاقدين مدفوعي الأجر للقتال في أوكرانيا، ومن البديهي أن تدس بينهم خبراءها والعديد من المرتزقة، وسترسلهم إلى أوكرانيا، وقد دفعت سلفا ثمن توابيتهم.
ولا أدل على أن واشنطن تعتبر الصراع في أوكرانيا معركتها الخاصة من أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على وسائل الإعلام الروسية الحكومية، وعلى المسؤولين الإعلاميين وهم ليسوا ضباطا ولا حتى سياسيين أو دبلوماسيين لكنها لا تود أن يكون هناك صوت مغاير لصوتها في الفضاء الإعلامي الدولي… قمة الديمقراطية أليس كذلك… على أن لذلك وقفة أخرى في تناولات قادمة.