لا يختلف إثنان على أهمية دور علماء الدين في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث يلعب الدين دوراً محوريّاً في تشكيل الرأي العام بل وحتى صناعته، وليس من الحكمة ورجاحة العقل الحجر على الرأي الآخر أو إقفال أبواب الاختلاف وإلغاء الخلاف في الرأي، والذي لا يفسد للودّ قضية بحسب القول المأثور للصحفي والمحامي ومدير الجامعة المصرية ورئيس حزب الأمة المصري “أحمد لطفي السيد” الملقّب “أستاذ الجيل وأفلاطون الأدب العربي”، فالاختلاف والخلاف سنّة كونية ضرورية ولازمة للتطوّر الإنساني وأية عملية تغيير ثورية، لكن المهم كيفية فهم وإدراك وإدارة ذلك ليكون هادفاً لدفع عملية التطوير والتغيير المرجوّة والضرورية والمنشودة.
ولعل في النموذج التراثي الأصيل الذي ضربه العالم العراقي الكوفي الزاهد بالمناصب والمكاسب الدنيوية الزائلة على حساب دينه وآخرته “سفيان الثوري” الذي كان له من اسمه كلّ النصيب خير قدوة وأسوة حسنه لكافة مَن خَلَفه من علماء الدين حتى يومنا هذا بل وقيام الساعة، ويكفي أن نستذكر قوله المأثور شعراً:
” يا رجال العلم يا ملح البلد مَن يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد”؟!
ليس من فائدة تُرجى في هذه العجالة الدخول في جدل سفسطائي عقيم مع علماء السلاطين، والذين ارتضوا صمّ الآذان وإغلاق العيون وإقفال العقول والمدركات إلى غير رجعة، ويكفي التذكير بخير الكلام كلام الله الحكيم: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِم ربّك، ولذلك خلقهم” ـ سورة هود 118 ـ 119 ـ وقول الحق جلّ في عُلاه: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” ـ سورة البقرة 251 ـ وكذلك خير الهدي على لسان المصطفى عليه الصلاة والسلام: “أعظم الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر”.. ولن ُيفيدهم في شيء محاولات بعضهم ليّ عنق هذه النصوص المحكمة والجليّة، أو حتى تحريف الكلم عن مواضعه كما فعل الأحبار والكتبة والفريسيّون مع التوراة والإنجيل من قبل، وهم يدركون ويعملون أنه الحق من ربّهم. ولهم في السنة النبوية الشريفة وسلوك السّلف الصالح، والتي يدّعون التمسّك بها والدفاع عنها خير دليل على الالتزام بمبدأ “الشورى” ومنهج اختلاف الصحابة وإقرار الرسول بذلك وهو لم يزل بعد بين ظهرانيهم.
وما يهمّ هنا هو ما خرج من أفواه هؤلاء العلماء من كلمات كالرصاصات أزهقت أرواح آلاف الأبرياء من العرب والمسلمين وشرعنت تدمير عدد من أوطانهم، جعلت منهم شركاء في هذه الجرائم التي لا يقرّها شرع ولا دين، وباتت أيديهم ملطّخة بدماء الأبرياء من أبناء جلدتهم، وهو ما يرقى إلى ارتكابهم جريمة “الخيانة العظمى” المعروف عقابها في الدنيا، فضلاً عن خيانة الله ورسوله التي تنتظرهم في الحياة الآخرة، يوم لا ينفعهم مال ولا بنون ولا شفيع يُطاع، أو وليّ أمر يدرأ عنهم العذاب، إلّا مَن أتى الله بقلب سليم.
وهنا نسوق بعض النماذج الصارخة لمثل هذه الفتاوى الكارثية المدمّرة لعدد من علماء السلاطين على سبيل المثال لا الحصر، فيوم 11/9/1990 أفتت ما يدعى “هيئة كبار علماء المسلمين في السعودية بجواز “الاستعانة بالكافر” ضد العراق الشقيق العربي المسلم، وذلك تشريعاً لاندلاع حرب الخليج الثانية، هذا العراق الذي بذل الغالي والنفيس دفاعاً عن السعودية ذاتها وبقية دول الخليج العربي طيلة ثماني سنوات متواصلة في الحرب العراقية ـ الإيرانية الضروس، وقد فتحت هذه الفتوى الجائرة الباب واسعاً لفتاوى لاحقة، كان أبرزها فتوى كبير هؤلاء العلماء حينها الشيخ ابن باز الذي أفتى بتكفير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وذهب إلى تشريع وجوب قتاله وإسقاطه، ثمّ تمادت الفتاوى لاعتبار حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في العراق والذي ينخرط في صفوفه الملايين من الشعب العراقي “أخطر من دول النصارى”، كونه حزب ملحد في حين النصارى يعتبرون من أهل الكتاب بحسب ابن باز نفسه، مدشّناً بذلك مرحلة جديدة من إشاعة “التكفير” لكل مَن يخالف نهجهم والذي يستنسخ مرحلة العصور الأوروبية المظلمة، حيث سادت “صكوك الغفران” وقانون “الحرمان” بل وإصدار شيكات للجنّة وبيع أراض فيها. وهو ما خلق البيئة المثالية لولادة التنظيمات التكفيرية الأمريكية الصهيونية المنشأ والأهداف “داعش” وأخواتها. وقد سوّغت تلك الفتاوى ومنحت الغطاء الشرعي حينها لدخول جحافل جيوش 33 دولة لاستباحة المنطقة تضم أكثر من نصف مليون عسكري أمريكي وبريطاني في طليعتها، قامت خلال يوم واحد فقط بإلقاء أكثر من 70 ألف قنبلة أزهقت أرواح مئات آلاف المدنيين الأبرياء في كل من بغداد والبصرة والموصل وميسان وبابل والأنبار وثلاح الدينومدن وقرى أخرى كانت آمنة قبلها. ولم يكتف علماء الفتنة والقتل بذلك، بل تبعهم المدعو ربيع المدخلي بإصدار رسالة بعنوان: “صدّ عدوان الملحدين وحكم الاستعانة على قتالهم بغير المسلمين” مستبيحاً دماء عوام الناس بالعراق بالجملة دون تمييز أو تخصيص، وكررت الكويت عام 2003 تظهير ذات الفتوى مرة أخرى عبر وسائل الإعلام الرسمية، وذلك لتبرير فتح أراضيها وأجوائها كقاعدة انطلاق لاحتلال العرق واستباحة دماء أهله وممتلكاتهم ومقدّراته العربية الإسلامية. وتواصل بعد ذلك مسلسل الفتاوى مستهدفاً ليبيا وسوريا وحتى فلسطين “قضية العرب والمسلمين المركزية بحسب الزعم الرسمي المكرر إعلانه بعد “طوفان الأقصى”. ودائماً كانت هذه الفتاوى تستهدف أبرياء العرب والمسلمين وتصب في خدمة أعداء الأمتين العربية والإسلامية، الغرب الاستعماري و”الكيان” النازي المجرم، وتشكّل ربحاً صافياً لهم، بل وتبرّر لوليّ الأمر مواقفه وسياساته التي تتعارض بل وتنتهك مصالح الأمتين وحتى الأوطان. وهو ما يؤكّد أن هؤلاء العلماء لا يراعوا إلّاً ولا ذمة في دينهم ودنياهم ويستبيحون ليس دماء وأوطان العرب والمسلمين وإنّما نصوص كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم وإن إدّعوا غير ذلك وأٌسموا أغلظ الأيْمان، فقد نطقوا بالكفر بعد أن أظهروا الإيمان ودخلوا في صفوف المنافقين المعروف مكانهم في الدّرك الأسفل من النار، حيث ليس بعد الكفر ذنب.
وإذا كان “الدين النصيحة” كما قال عليه الصلاة والسلام، فإن على بقي على قيد الحياة من علماء السلاطين التكفيريين الفتنويين، أن يبادوا إلى طلب الصفح والمغفرة من الغفور الرحيم، علّهم يدركون قبل فوات الأوان أنفسهم قبل أن يخسروا الدنيا والدين، إن لم يكونوا قد خسروه فعلاً.