قصة قصيرة

الإنتظار

فضل المهلوس

يسارع غريب محاولاً الظفر بمكان ما تحت المظلة الحديدية لموقف حافلات مخيم اليرموك اتّقاءً لحراره شمس تموز التي أوشكت ولوج خريف عمرها اليومي، ولم تهِن لسعات غيظها بعد، فيجدها مزدحمة أيّما ازدحام.

يضع زوّادته الخاوية على رأسه بيسراه، في حين يمسح عرقه بكفه الأيمن، ثم يفرك كفه بأصابعه، فيختلط العرق ببقايا الإسمنت وغبار الشوارع العالق على وجهه، ويتساقط على الأرض نِتَفاً داكنة كفتائلٍ زفتية.

يجول ببصره بين الأجساد المتعبة والملابس المتسخة والمبرقعة ببقع الشحم وزيوت الورشات.. يتأمل الوجوه والأيدي المعفرة، وعربات الفاكهة والمرطبات، وصناديق الخضار التي لوّحتها وأصحابها أشعة الشمس الملتهبة.

ينقل نظره خلف سياج المحطة المركزية للحافلات، حيث تتراكض بعض الجموع، وتتزاحم أخرى للصعود بسرعة، أملاً باقتناص مقعد للجلوس، وأخذ قسط من النوم أثناء الإياب بعد مشقة نهار صيفي طويل.

يشيح عينيه صوب إحدى زوايا المحطة، حيث يدور هرج ومرج بين المشترين والبائعين ذوي الملابس الخضراء والمموهة العائدين بما خفّ حمله وغلا ثمنه من مُهرّبات الجانب الآخر من المصنع اللبناني.

فجأة تلوح من بعيد سيارة جمارك، فيحمل كل بائع بضاعته أو يلفّها ببطانية على عجل، ويسلم ساقيْه للريح، يتبعهم بعض الزبائن الذين لم ينتهوا من إتمام الحساب بعد.

تمضي السيارة دون توقف، مصحوبه بنظرات العيون الزائغة التي ما أن تُشيّعها تماماً حتى تعود المياه إلى مجاريها.

ويعود غريب ببصره إلى الوجوه المُكفهرّة المحيطة، ويُسلم نفسه لانتظار الفرج.

بعد لحظات طويله من روتين الترقّب اليومي المقيت، يتأهب المنتظرون، يلتفت يساراً، فاذا بحافلة المخيم قد أقبلت تتهادى من زاوية الشارع.

يتحفز غريب لجولة المزاحمة المعتادة، ليفوز بمقعد للجلوس، أو حيّز مريح للوقوف كأضعف الإيمان، ويستوقفه منظر ما في الجانب الأخر من الشارع، يهزّه، يستلب كيانه وحواسه الست.

إمراة أنيقة مميّشة الشعر، مصبوغة الوجه بعناية فائقة كزهرة اصطناعية، تحمل كلباً صغيراً ناصعاً كالثلج، تُطوّق عنقه سلسلة لمّاعة يساوره الشك في أنها مصنوعة من ذهب خالص. فيتذكر وعده لزوجته بشراء سلسلة ذهبية مع أونصة أو نصفها، والذي حلم وعمل سنوات طويلة لتحقيقه ولا يزال، بعد أن باعت ذهبها المتواضع لحظة عسر لم تفارقهم بعد.

تغادر المرأة مدخل إحدى البنايات الفخمة المقابلة باتجاه إحدى سيارات المرسيدس الفاخرة بتؤدة وخيلاء طائر البطريق.

يتعجل السائق فتح باب السيارة، ليختصر عليها عدد ثواني الوقوف تحت الشمس، ينزع طاقيته المثقبة، ويضعها على كرسي القيادة، ويهرول مسرعاً نحو الجانب الآخر للسيارة.

يفتح الباب الخلفي، ويبتسم ابتسامه روتينية، فتسلمه بدورها كلبها المدلّل بصورة تلقائية تبدو مألوفة لديه. يتلقف السائق الكلب بحنان وبطء بكلتا يديه، ويضعه بدلال وخفة على الكرسي الخلفي العريض، ويسارع إلى فتح الباب الأمامي باسطاً يداه ومُقوّساً ظهره بإذلال ومودة مصطنعة.

يراقب غريب السيارة الفاخرة وهي تتهادى فوق الشارع، ويكزّ على أسنانه، ويهز رأسه، ثم يُطلق ما امتلأت به رئتاه من هواء مُلوّث.

تختفي السيارة عن ناظريه، يستيقظ من ذلك المنظر، ليجد نفسه مُتصلّباً على قارعة الطريق، ويجد الحافلة قد بدأت بالانطلاق بعد أن ابتلعت بشراهة عدداً من جموع المنتظرين حتى أُتخمت.

يركض يائساً للحاق بالحافلة مع بعض المُلاحِقين، لكن دون طائل. يُجرجر بتثاقل جسده المتعب، ثم يعود القهقرى ليلتحق مجدداً بطابور الإنتظار المتزايد.

دمشق – 1986

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى