صحافة وآراء

قصه قصيرة ميت درجة اولى؟!

فضل المهلوس

شمس آب الملتهبة تطارد الجموع في الأزقّة والشوارع، فيزيد من التهابها لحظة اعتلائها كبد السماء. يغذّ “غريب” الخطى رغم الإعياء والخمول والعرق المتصبّب، ينحرف يميناً إلى “السبيل” القريب من محطة سرفيس ـ خدمة ـ المخيّم، يعبّ من الماء ما يملأ معدته التي تشبه بيت نار فرن قديم، فتتليّن حنجرته، وتعود الحركه لريقه المتصلب جفافاً.

يمسح ما تراكم على جبينه من عرق، فيُزيل بكفه الأيمن ما رشح على شاربيْه وذقنه من رذاذ ماء، ثم يهرول باتجاه الطرف الآخر من الشارع، فيضيف للسلسلة البشرية المنتظرة والمترهلة حلقة إضافية.

تلوح من بعيد سيارة صفراء قديمة، من قِدَمها يدرك أنها خدمة سرفيس، يتأهب، ينظر حوله، فاذا بالجميع قد أدركوا ما أدرك وتأهبوا.

تقترب السيارة ببطء وخيلاء، يلملم الحبل البشري نفسه متحوّلا إلى كرة ضخمة تهمّ بالانقضاض على السيارة، لولا لمعان خدمة “دحاديل” على بابها الأيمن المواجه.

تمضي السيارة بنفس البطء والخيلاء، ويعود الحبل البشري إلى وضع الانفراج مجدداً، يهم “غريب” بمسح جبينه، وإذ بسياره مماثلة تظهر، فيعدِلُ ويتأهب من جديد.

تعود السلسلة البشرية للتجمع، وما أن يفوز بعض من حلقاتها في النجاة، ويتوجّس “غريب” خيراً لقصرها، حتى يقطع الشارعَ عددٌ آخر يعيد للسلسلة طولها السابق أو يزيد.

سيارة ثانية، وثالثة، ثم رابعة يتأهب مع كل واحدة منها، لكن احتفاظه ببعض اللياقة يُبقيه أسيراً للحر والانتظار. السيارة الخامسة تقترب، يُشمّر “غريب” عن ذراعيْه، ويذر لياقته جانباً، ويقرر خوض المعركة.

يُمسك بقبضة الباب الخلفي بقوة، يُجاري السيارة الآيلة للتوقف سرعتها، يصرخ بعد أن يُطلّ برأسه من النافذة الخلفية.

ـ فلسطين.

يُجيب السائق تلقائياً:

ـ اطلع.

يقول بينه وبين نفسه:

ـ وحتى لو كانت يرموك فلن أترك هذه الفرصة.

يفتح الباب فتدفعه الجموع المتزاحمة للداخل.

يمتليء المقعد الخلفي ـ “غريب” وراكبان تعدّيا الخمسين سنة ـ ويبدو أنهما قد نالا حظهما السعيد من الغذاء.

ـ ركبوه.

يقول السائق بلهجه الواثق مما يفعل.

يلملم “غريب” نفسه، يساعده الرجلان على ذلك، فيصعد شاب في الثلاثين، وتمضي السيارة كالمعتاد بأكثر من حمولتها.

تنعطف السيارة المترهلة يميناً مخلّفة سوق “الحميدية” وراءها.

ـ لو سمحت احمل ابنتك في حضنك حتى لا تحطّم ورود الأخت.

ينظر “غريب” صوب الكرسي الأمامي ليستجلي الأمر، فإذا بشاب ينصاع لأمر السائق، ويضع ابنته الصغيرة في حضنه، وعلى يساره تتحسس شابة ضُمّة ورود اصطناعية ملفوفة بعناية فائقة.

يحاول التنفس عميقاً، فيحول ابن الخمسين الملاصق دون تنفّسه بالعمق المنشود، يمسح عرقه ويستكين للأمر، أملاً بالوصول إلى البيت والأسرة المُنتظرة بسرعة.

تُبطئ السيارة حركتها، وتأخذ لها مكاناً بين طابورالسيارات المتباطئة، فيغادره الأمل بسرعه الوصول للبيت والأسرة.

ـ العجقة المعتادة.

يقول السائق بعد أن أوقف حركة سيارته القديمة.

ـ لعلها شاحنة عسكرية كبيرة ارتكبت حادثاً.

يُدلي ابن الخمسين الملاصق بدلوه.

ـ أو تحاول الدوران وسط الشارع.

يُضيف ابن الخمسين الآخر، ويبدو أنه لمح من وسط الزحام بعض أكاليل الورود الضخمة البعيدة.

ـ أكيد ميّت درجة أولى.

يُعقّب الشاب الذي كتم على أنفاسهم الثلاثة في المقعد الخلفي.

يجول “غريب” ببصره بين المتحدثين، وما أن انتهى الشاب من جملته تلك حتى وجد الجميع ينظرون نحوه ينتظرون إبداء رأيه، لكنه لم ينبس.

ولكي يُزيل أي ريبة، أطلق تنهيده أعقبها بإيماءة، فأدرك الجميع أنه يشاطرهم الرأي والمشاعر، لكنه لا يقوى على الكلام من زحمة السيارة.

تمضي السياره ببطء، ويسود ركابها وجوم الانتظار، إلى أن تصل مصدر التأخير فتتكشف الحقيقة.

ـ ألم أقل لكم ميّت درجة أولى.

يقول الشاب بلهجه المنتصر، وهو ينظر إلى السيارات الفاخرة المتراكمة على جانبي الشارع والمليئة بأكاليل الورود الضخمة.

ـ حتى في الموت فيه درجات.

يجيبه ابن الخمسين الملاصق له بعد أن تيقن من فوزه برأيه.

– نعم انظر إلى أكاليل الورود ما أكبرها.

يضيف الشاب المنتصر منتشياً.

ـ والسيارات الفخمة.

يقول ابن الخمسين الآخر، ويبدو أنه سلّم برأي الشاب.

ـ يا عمي الميت ميت.

يُعقب ابن الخمسين بمكابرة المتشبث برأيه.

ـ لكن الميت درجة أولى يختلف.

يجيب الشاب شادّاً نظر الجميع إليه، ويستطرد:

نخب أول مستورد، وعطور فرنسية مهربة، وَ… ـ الميّت درجة أولى يوضع له قطن

ـ كل هذا لا ينفع بشيء.

يقاطعه ابن الخمسين المُكابر.

ـ معك حق. والله يا عمي صحيح دوّر على ابنه يمكن فرحان لموت أبيه من أجل الورثة.

يضيف ابن الخمسين الآخر بعد أن استقوى بمكابره صديقه.

ـ الدنيا دولاب دوّار.

يعقب الشاب مثيرا الانتباه من جديد، ويتابع:                                                 ـ

ـ غداً ابن ابنه سيفرح لموت أبيه.

ـ لو البشر تتعلم وتتعظ.

يقول ابن الخمسين الملاصق لغريب هازّاً رأسه بأسى.

ـ أعرف محامياً مشهوراً عندما توفي أبوه جاءه أكاليل ورود بحوالي 32 ألف ليرة.

يتحدث الشاب كمَن يحاول تدعيم رأيه الذي فاز.

ـ لماذا هذا حرام؟!

يقول ابن الخمسين الملاصق للشاب مستغرباً، ويبدو أنه عاد لمكابرته السابقة.

ـ لو تصدقوا بثمن الورود على الفقراء والمحتاجين، ألم يكن أفضل وأكرم للميت وابنه المحامي.

 يضيف ابن الخمسين الآخر، ويبدأ بسرد قصة مماثلة:

– في أحد الأيام ذهبت إلى مستشفى خاص، شيء لا يُصدّق، سيارات محملة بالورود على باب المستشفى، ضمم ورود ضخمة، طابق محجوز بكامله، ممراته مليئة بالورود، غرفتان في الطابق تعج بالورود، ورود من كل الأنواع والأحجام والألوان، تشتهي العين النظر إليها…

يتوقف لحظة، ويتنهّد كمَن يحاول التأكد من انشداد الجميع لحديثه، ثم يكمل:

ـ دخلت الطابق المحجوز، فشاهدت رجلاً يشبه الفيل، سألت عنه، قالوا أبو ضابط كبير، نسيت ما هو اسمه!

يتوقف ويتنهد من جديد ويتابع حديثه:

ـ يا جماعة، يمكن لا تصدقوا إذا قلت أن الورود التي شاهدتها تقدر بحوالي 50 أو 70 لا والله يمكن أكثر من 100 ألف ليرة

يتوقف ويتنهد مرة أخرى، ويضيف محاولاً إزالة الدهشة لدى مستمعيه.

ـ حتى من كثرة الورود، لم يعد هناك مكان لوضعها في المستشفى، فصاروا يرمون الورود خارجاً، ويحتفظون بالشريط المكتوب عليه اسم المرسل فقط.

ـ حتى يردوا مثلها في مناسبات مشابهة.

يقاطعه ابن الخمسين الآخر بلهجة البسيط الواثق.

ـ مثل هذه الهدايا لا ترد.

يتدخل “غريب” في الحوار للمرة الأولى بعد أن عدّل جلوسه، وأيقن أن صمته قد وصل حدود الريب والشك.

ينظر إلى المتحاورين، فيجد نظرات الاستفسار والشغف في عيونهم التي توجهت الى المراقب الصامت الذي نطق اخيراً، فيتابع موضحاً جملته الغامضة:

ـ لأنها هدايا مصلحة لصاحب نفوذ.

يسود صمت عميق، في حين توشك السيارة دخول المخيم.

………………………….. ـ دمشق أواخر 1984ـ ……………………………

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى