
ـ أ ـ
أفاقت القرية من سباتها القصير على صوت التذكير، وأخذت تنفض آثار النوم عن وجهها النعس المتعب، فيما القمر المحدودب الهرم يُدير لها ظهره، ويتلاشى متقهقراً أمام زحف الضوء النهاريّ المصحوب بصياح الديكة، ونفير الدّواب، ودلف جمهور الذّكور صوب المسجد اليتيم.
كعادتها، تُتمّ أمّ فريد تجهيز جيشها الصغير، تأخذ مكانها قرب الباب الخارجيّ، وتُمطر أولادها السبعة بالوصايا المعهودة، فيما بصرها يجول على عجل بينهم للتأكّد من اكتمال العتاد المدرسيّ وتمام عدّته. تمطّ نظرها بعيداً مع مسيرة طابور المغادرين، الذي بدأ للتو مشواره الطويل للمدرسة النائية الوحيدة قاطعاً حاكورة الأرض العَتبى منذ أن لهث ربّ العائلة وراء الفرج الخدّاع وتركها مرتعاً للخراب!
يختفي الجيش عن مدى النظر الواهن، تقذفه بما تيسر من دعاء، وتعود أدراجها لتجد فريدة قد أتمت نقل بقايا المعركة الصباحية الضروس للمطبخ، وأبا العائلة ووليَّ عهده الغض ينتظران زوادتيهما للانطلاق.
يسير الإثنان جنباً إلى جنب باتجاه موقف حافلات القرية، يلفّهما الوجوم والصمت الأغنى عن أي كلام، وفي رأس كلّ منهما تعتمل الأفكار وتتصارع ونقيضها بضراوة.
ـ “الله يكون بعونك يا أم فريد، بتشتغلي الطاق طاقين، وصار حملك بهد جبال، بس شو طالع بالإيد. شهر كامل بعد ما طردني الخواجا شلومو اللي خدمته عشر سنين، وأنا مثل مكّوك الحايك، رايح جاي وسلّتي خاوية، بلا شغل ولا مشغلة، اللهم إلا هالزّوادة بتروح حبلى وبتعود مخلّفة، ولولا ماكينة الخياطة اللي ذبحت نظرك لمتنا من الجوع.. وأنت يا با فريد شو ذنبك لتحمل إثمنا، وتشيل همنا قبل الأوان. أنا حاسس فيك مليح، وعارف ليش تركت المدرسة ورحت تشتغل بالورشة مع أبو فاضل، بس مش قادر أعمل شي. يا ترى ذنبك برقبتي وإلا برقبة مين يا فريد، يا ترى أنا اللي سرقت مستقبلك وأحلامك وإلا مين اللي سرقها، معقول يا ناس أكون أنا ضحية وجاني بنفس الوقت، وعلى مين؟ على إبني حبيبي اللي طول عمري بحلم يصير دكتور يرفع رأسي وينشل هالعيله. الله بيعلم إنّي بتقطع علشانك، يا ريتك ظليت بالمدرسة، يعني شويه هالملطوشات اللي بتجيبهم راح يشيلوا الزير من البير. آه. الله يبدل هالحال ويكون بعوننا..”.
ـ “الله يكون بعونك يا با هرمت قبل ميعادك، شايل كل همومنا بقلبك، وما في بإيدك حيله. بيهون مستقبلي فداك وفي دق أمي وإخواني، والحمل اللي بتقسّم بسهل حمله، والحاله ما بتظل هيك، مصيرها تتغير، ومصير هالكابوس يزول، والبسمه والأفراح تعود لديارنا. أنا عارف إنه شلومو الثاني اللي بشتغل عنده بسرق حقي وبذوّبني وبشرب عرقي، ولو بيقدر يشغلني ببلاش لعملها، وأكل شوية هالملطوشات اللي بيعطيني إياهم كل يوم بدون نفس، واللي يا دوب يعكزوا أمي المسكينه. يا حبيبي يا با راح تقتلوا حالكم أنت وأمي، وتخنقكم الهموم، الله يجازي اللي كان السبب، فش غيره اللي خرب بيتنا، شلومو وكل شلومو، بس بسيطه ما بدوملهم وفينا نفس شغّال وإيد بتهد جبال، ولا تشيل هم يا با كلها شوية وقت والطواحين تدور دورتها..”.
ـ يا الله يا فريد نلحق الباص.
بالكاد تمكّنا من صعود الحافلة المتخمة بأبناء القرية الثكلى نهاراً، الغاصة ليلاً، ومن جديد يُهيمن الوجوم والصمت عليهما، وتعود ذات الأفكار للشّجار.
ـ ل ـ
ها هي محطه القدس المركزيه للحافلات، تعج بالنحل الحالم بالعسل، أو حتى ما دون العسل.
يترجلا تباعاً من الحافلة المتعبة ويودّعا بعضهما وفي عينيْهما تحتبس الكلمات الهاربة من رحى الحرب الأهلية المستعرة في دماغيْهما. تبتلع فريد الأمواج البشرية المترنحة، ويشقّ طريقه مع بعضها صوب “الباب الجديد”1،حيث تمتصها باصات “إيجد”2 كإسفنجة عطشى، لتسقطها رذاذاً متفرقاً عبر محطات النصف الآخر3 من الجسد المكبّل ، والذي لم يعد نصفاً آخر بعد أن توحد “هنا” و”هناك” واقترنا بنفس القيد والكابوس.
أما أبو فريد فيشق طريقه للانخراط في جيش العبيد بمؤخرة “المصرارة”4، فهو لم يعد كالسابق يُبتلع ويُمتصّ ويتساقط رذاذاً كما فريد…
ثلاث ساعات وهو يعيش بين استنفار واسترخاء، ينطلق مع المدّ المتدفّق باتجاه أية سيارة خواجا تتوقف، ثم يعود والجزر المتناقص بخفيّ حُنيْن. وفي كل مرة يزداد سوط القيْظ لسعاناً، والشمس التّمّوزيّة إعتلاءً وحدقة عينها اتساعاً.
يعدّل أبو فريد عقاله، ويُعيد دوزنة كوفيّته المرقطة، ويأخذ له مكاناً تحت إحدى الشجرات الفارعة، ويُباشر فتح زوادته المتواضعة، فيما يتسلل اليأس اليومي ولقمه المبتلعة روتينياً ودون شهية.
تلوح من بعيد سيارة خواجا، تتهادى ببطء وخيلاء كبطة برية على الرصيف الأيمن، لتستقرّ قبالة الشجرة، وتختفي خلف أمواج المدّ البشريّ الآخذة بالتجمّع كطيور في صحراء جليدية نثر لها مُحسن حبات قمح معدودات. يلفّ أبو فريد زوادته على عجل، وينهض متثاقلاً للّحاق بالمدّ المتدفّق، ويدخل معترك المزاحمة، فيما تتزاحم في مخيّلته صور أم فريد والأولاد التسعة كشريط سينمائي متسارع.
يجد نفسه وجهاً لوجه مع باب السيارة، عارضاً نفسه في مزاد الخواجا الجديد الذي باشر التفرّس بالوجوه المتصايحة “انا يا خواجا”. الكلّ ما عداه يُدلل على بضاعته. أخيراً وبعد لحظات كأنها السنين كلّها جاءت النتيجة بلهجةٍ لَكِنَةٍ متعثرة:
ـ أنت.. أبو الحطة.. اطلع.
يسارع أبو فريد للصعود فرحاً سوى من شكوك ساورته بسبب إنتقائه من بين العضلات الشابة المفتولة. يُجاهد لطردها معزياً نفسه بما قد يكسبه من نقود، أية نقود يلملم بها ما تبقى لديه من إحساس برجولته العربية وإنسانيته وجدوى وجوده، ويُدخل السرور إلى أم فريد المرهقة والأولاد المنتظرين صلاح الحال لينهالوا بالطلبات التي لا تنتهي أو تتقلص.
ـ “يا ما أنت كريم يا رب، الله يجيب الفرج، ويكون شغل دائم أو حتى طويل شويه. نذراً عليّ لو كان هيك، لأريحك يا أم فريد من الخياطه للناس وأرجعك يا فريد للمدرسه غصب عنك، لتكمل تعليمك وتساعدنا في الوقت المناسب.. المناسب بس، لنلاقيك أنت وأخوتك عكازتنا بكبرنا. وأنت يا فريده لأكسيكي أحسن كسوه بدل فساتين أمك العتاق اللي بتكيّفلك اياهم لتلبسيهم.. آه.. طامعين بكرمك يا كريم.. يا قادر على كل شيء..”.
ـ يا الله إنزل خبيبي.
بهذه العبارة الآمرة بتر الخواجا حوار الذات، واسترسال الأمنيات…
صعد وإياه أربع طبقات من الدرج الحلزونيّ كأنها أربع درجات، في بناية لا يعرفها ولم يُحدد او يتبيّن حتى منطقتها لشروده طيلة الطريق الذي لا يعرف له طولاً أو قصراً.
دخل خلف الخواجا إحدى الشقق، أدرك أنها شقته الخاصة، وأخذ يجول ببصره بين ثناياها وأثاثها الفاخر، باحثاً عن عطل ما يستدعي العمل، فلم يجد له سبيلاً. عندها أحس برهبة الوحدة والاغتراب، وتسرّبت إليه مشاعر القلق والريبة، وهاجمت رأسه الظنون والتساؤلات التي كانت أقوى من أن يكبتها:
ـ أنا شايف البيت كامل من مجاميعه يا خواجا ما في شي بده شغل.
تساءل محاولاً تمالك نفسه ولو ظاهرياً.
ـ صحيح معك حق تعال وراي أفرجيك الشغل.
أجابه الخواجه ويبدو أنه قرأ في ملامح وجهه ما يدور بخلده.
ـ ق ـ
وجد نفسه والخواجه في غرفه الحمّام، فأيقن لحظة اجتياز عتبتها وجود العمل ولكن أي عمل.
الغرفة الواسعة الفاخرة اللماعة، التي شاهد مثيلاتها سابقاً، وحلم بمثلها، تغرق أرضيتها بالبُراز العائم، كمستنقع آسن.
صحيح أنه انتظر طويلاً أية فرصة عمل، ولكن ليس هذا العمل، وهو الفلاح الماهر ومعلم البناء المحترف الذي جار عليه الزمان فصار أجيراً، وشدد جوره فغدا عاطلاً، وها هو يتمادى في الجور ويضعه وجهاً لوجه أمام هذه البالوعة اللعينة المخنوقة.. شريط الانحدار العجول يدور ويدور، تتداخل صوره وألوانها الزاهية فالباهتة فالقاتمة، وما أن ينتهي الشريط المتسارع أو يكاد حتى يصحو من جديد أمام عمله الحقير الوحيد. أيقبل به أم يحيد، أيستجيب للعوز المهين أم لا يستجيب، أيلوذ بما تبقى لديه من كبرياء معلم البناء وقبله الفلاح أم يواجه هذا المصير الثقيل، الثقيل..؟؟
ـ هذا الشغل عرفته.
ـ بس انا يا خواجه ماليش فيه أنا معلم بناء قد الدنيا.
ـ بس أنت كان بدك عمل وأنا عندي العمل. صحيح؟
ـ صحيح…
ـ وأنا بعرف إنه العربي بحب المرا وبشتغل بالخرا.
ـ صحيح، ومش صحيح، العربي بيشتغل بالخرا على شان ما يمد إيده للورى.
ـ بلاش فلسفه شو بدك تشتغل وزير بدولة إسرائيل. ما بدك تشتغل بجيب غيره وغيرك كثير مثل ما بتعرف.
ـ بدي اشتغل يا خواجا لإنه بعرف إنه لا بيطلع لي أصير وزير ولا حتى خفير، وما بدي من أصله هيك وزاره أو خفاره.
ـ “حتى خراكم مكتوب علينا نشيله بإيدينا.. آه يا زمن ما أعطلك.. الواحد منا صار ببيته غريب وعبد للغريب، والغربة مُرّه وأمرّ بكثير من الضُرّه.. مكتوب عليك يا أبو فريد تشيل خرا وتصير عبد في بيتك للخرّا اللي جاي من برّا..”.
يخلع كوفيته وعقاله بتأنٍّ، يعلقهما بحذر على الشماعة الجدارية في غرفه الحمام، يتأكد من إحكام التعليق، ثم يرفع كمّي قميصه ورجلي بنطاله لما فوق الكوع والركبة، ويباشر عمله المقيت بيديه، فيما يطير خياله صوب القرية.
ساعه أو يزيد من الغوص الإجباري تنتهي باكتشاف سبب استعصاء البالوعة وتمنّعها. ها هو ينزع اللقمة العالقة في زورها، ويقبض عليها كشرطيّ ماهر أمسك بطريد عدالة..!!
ـ اعود بالله من الشيطان الرجيم.. كلسون وصدريّه.. تفو..
ـ شو خلصت؟
يأتيه الصوت المختلط بالدعسات المقتربة، ويطلّ صاحبه بروب الاستحمام الأنيق وبيده قدح. يُشيح أبو فريد وجهه عنه حتى لا تلتقي عيناه والمنكر، ويشير بسبابته إلى الجاني الملقى على البلاط، وقد بان قبل قليل بعد أن ذهبت مياه المستنقع وغدت كتل الروث الآدمي هامدة عاجزة عن العوم.
ـ خلصت شايف يا خواجا.
ـ شايف. شو بدك تعمل للنسوان؟
ـ ..؟!
ـ شو ما بدك تنظف الغرفه؟
ـ أنا يا خواجا خلصت شغلي اللي جيت على شانه والباقي عليك!
أجابه وعلامات استغراب ترتسم على محيّاه، وأدار ظهره، وبدأ فك استنفاره اللعين. دوْزن كوفيّته وعقاله وفرك حذائه بالدعاسة بشدة علّه يُزيل ما علق به. وتبع الخواجا الذي كان قد أدار له ظهره ومضى ليستقر في حضن إحدى كنباته الواسعة مريحاً ظهره على صدرها الطريّ، مُسبلاً يديه بارتخاء، ومداعبا بيمناه خصلات كلبه الضخم الجاثم على يمين الكنبة.
ـ أنا خلصت شغلي يا خواجا.
ـ بس ما نظفت الغرفه. قالها ماطا كلماته، ومضاعفاً لكنته العربية بعد أن ارتشف ما تبقى في قدحه.
ـ ما أنا قلت لك إنه الباقي عليك..
ـ طيب شو بدك…
ـ…؟ !
ـ أنا ما معي فلوس.. فيك ترجع بعدين…
ـ شو بتقول هو أنا عرفت كيف جيت حتى أرجع.. قل لي ما بدك تعطيني مصاري بلاش لف ودوران…
أجابه أبو فريد وبدأ وجهه يزداد تورداً ورقبته احمراراً.
ـ …
ـ حرام عليك أنا وراي عيال… قالها رافعاً يمناه وآخذاً في الاقتراب…
ـ برّا ميلوخلاخ5 ممزير6.
ـ شو برّا أنا بدّي حقّي ما بشحد منك ولا بطلب حسنه.. وازداد اقتراباّ وذراعاه ارتفاعاً.
ـ بوبي..
أمر الخواجه كلبه متعففاً عن الرد على ما بدا له تطاولاً، وعاد ليلتقط قدحه ويملئه من جديد.
لم يكد حرف الواو بعد الباء ينتهي حتى استأسد الكلب الذي كان حملاً وديعاً قبل لحظات، وانقض على ظهر أبي فريد الذي باشر بالفرار من المصيدة ولكن دون جدوى…
معركه غير متكافئة دارت لدقائق معدودة، سحب فيها بوبي أبا فريد المتخبط باتجاه غرفة الحمام، وجرّه على أرضيتها فاصلاً بينه وعقاله وكوفيّته التي ازدادت ترقّطاً، وكأنه كان يقف على الحوار من بدايته ويعيه.. وما أن تأكد الكلب المستأسد من اتمام تنفيذ الأمر حتى وقف فوق فريسته المنهكة وأوقف زمجرته مطلقاً نبحة واحدة ليس أكثر.
ـ بوبي..
عاد الكلب المنتصر وسيّده إلى وضعهما السابق لصدور الأمر المنجز، فيما خرج مسرعاً من غرفه الحمام وصفق خلفه باب الشقة بقوه شخص شبه ميّت، يضع كوفيّته وعقاله تحت إبطه الأيسر وفيه بعضاً من ملامح أبي فريد.
ـ ر ـ
ـ جهزي لي اللي ما يتسمى لأتحمم يا أم فريد.
قالها وهو يعبر عتبة البيت، ودون أن يرفع رأسه المتهدّل، أو حتى يُتحّي كالعادة. أوقفت الزوجه إيقاع قدمها على مدوس آلة الخياطة، ولوت جذعها ناحية الباب، وشهقت:
ـ شو اللي عمل فيك هيك…
ـ …
احتبست الكلمات في حنجرته، وهاج الطوفان الأحمر القاني داخل شراينه المتضخّمة، واشتد خفقان قلبه وأرجحته كأنما يُحاول الفرار من سجن صدره المُثقل بالازدحام. كرتان ناريتان تدوران في مقلتيْه، يجاهد لقذفهما لكن بلا طائل، ترتدان بعد ارتطامهما بسوريْ جفنيه دون أن تلامسا أسلاكهما الشائكة، تلتقيان في مركز الإبصار وتلتحمان معاً لتشكّلا كرة ضخمة تنحدر بسرعه نحو الحلق الجاف كالهشيم.. غصة قوية بالحلق تتبعها حرقة شديدة.. بالكاد يزدرد ريقه.. تهبط الكرة الشيطانية باندفاع أكبر صوب القلب صانعة انفجارات بركانية على سطحه المشتعل.. تخترقه بقوة لتستقر في أعماقه، فيما أبخرة الانفجارات تصعد نحو الذاكرة الحبلى…
بنظرتها الريفيّه الثاقبة تحدس أم فريد حجم الخطر الذي يتهدد زوجها، رأسمالها الوحيد. تنسى تعبها وتقفز عن كرسيّها مهرولة للتخفيف عنه، فهي مستودع همومه وآلامه.
ـ ولا يهمك يا زلمة. شده وبتزول. وبسترها الستار…
ـ …
ـ افرد وجهك يا زلمه مش أنت دائما بتقول إحنا تعودنا نضحك حتى وإحنا بننذبح…
ـ …
ـ بسيطه شو يعني طارت الدنيا فش شغل بلاش. الحاله مستوره والحمد لله. وبعدك بقوتك…
ـ …
ـ غيمه وبتروح. وما بعد الضيق الا الفرج.
ـ .. .؟؟
أجهضت أم فريد بإشعات لسانها غيومه السوداء المكفهرة، فتساقط مطرها غزيراً على حلقه المتشقق جفافاً وقلبه المتأجج اشتعالاً، وما هي الا لحظات حتى عادت لأوردته وشرايينه خريرها الطبيعي، فيما تفجرت رغماً عنه ينابيع عينيه بغزارة…
تركته يبكي ويجهش بالبكاء، وظلت منتصبة قربه دون أن تنبس أو تزيد، وهي التي تعرف بفطرتها أن البكاء أحياناً وحتى لأشد الرجال بأساً وجلداً خير مجير وأفضل دواء…
ـ يا الله يا زلمه. فريد خلص وطلع من الحمام.
كان لا يزال مخدّراً، ولهذا لم يسأل عن سبب وجود فريد مبكراً، واكتفى برد تحيته باقتضاب تاركاً صاحبها يتخبط في تساؤلاته وحيرته من منظر أبيه المثير…
ـ أ ـ
ها هو يخرج من استحمامه الطويل، مرتدياً ثياباً فواحه، وكوفية وعقالاً ناصعيْن، تاركاً وراءه أكثر من الملابس المتسخة، والمياه التي تعكّرت واكتست لوناً كالحاً بعد أن كانت صافية من دون لون.
وبخروجه منتعشاً، يدخل الأولاد السبعة عتبة البيت، ويبدأون التخلي عن عدتهم وعتادهم المدرسي، وتجتمع العائلة كما في الصباح حول المائدة الأرضية، يُشارك أبو فريد جيشه لكنه لا يُجاريه كالمعتاد…
ينفض الجيش الصغير كل إلى ليلاه، وتنفرد أم فريد بزوجها، فيسرد عليها حكايته من ألفها إلى يائها، وما بعد الياء. وما أن يرمي ما بجعبته من سهام، وتتأكد من هدوء حاله، وراحة أعصابه المقبولين، حتى تباشر حديثها المؤجل عن بكرها فريد لامسة لزوجها العذر لضعف ملاحظته عند قدومه بهاتيك الحال.
ـ مش بس أنت طحنتك الطاحونة، وداستك الكلاب، ابننا فريد صابه اللي صابك كمان.. أجت كبسة اليوم على الورشة اللي بيشتغل فيها، وربك حميد شافهم من بعيد، واتخبّا بين إلواح الخشب في حمام بعده على العظم، وراحوا بحال سبيلهم ولحد هون ربك سترها.. بس معلمه ناداه وقال له ما إلك شغل عندي، أنا ما بدي مشاكل.. قدّام أبو فاضل اللي واقف مثل الصنم لا شكى ولا حكى حتى ما يلحقوا فيه، يا حسره.. آه يا أبو فريد البلد بلدنا والغربان السود بتطاردنا، بس فشرت ما راح تطردنا لإنه انخلقنا في هالأرض وانجبلنا بترابها، وهالأرض وترابها ما حدا بيقدر يطردها…
ـ أصيله وبنت أصول يا أم فريد، وقولك على الراس والعين من فوق.. أنا طالع لبرّا ويا ريت تعملي لي كاسة شاي تعدل دماغي، لنشوف إلنا صرفه بمصيبتنا…
ـ ر ـ
سحب نفساً عميقاً من سيجارته وقذف عقبه بعيداً. استجمع ما يحشو رئتيه من هواء ملوّث وآهات وزفرها بقوه على شكل شريط سحابيّ متعرج سرعان ما تبدد بعد ابتعاده قليلاً عن شفتيه المُتبرّمتيْن. ارتشف ما تبقى من شاي دافيء في الكوب ليجلو صدره وبلعومه من آثار ضبابيه، وعاد إلى إطراقته السابقة، مقوّساً ظهره، سانداً مرفقيْه على الركبتيْن، حاملاً رأسه المُثقل بيديه، ضاغطاً بكفّيْه على الصدغيْن، فيما بصره يتنقّل بين ثرى حاكورته المهجورة.
ـ “دولمين ملاح عند اللي بيعرف قيمتهم.. سامحيني يا أرضي، سامحوني يا كلّ حبات ترابها، كان على عيني عصبه وفكيتها، وبعد اليوم ما في كلمه يا ريت، أنا كتير وقليل دورت ولفّيت، ومثل ترابك يا أرضي ما لقيت، رح أصير مثل دودتك يا أرض، أنعش ترابك وأتنفس معاه، وشويّه منك وشويّه من أم فريد بنعيش هالحال ليتغيّر بغير حال”.
ـ هات العدّه يا فريد والحقني، وجهّز كتباتك لبكرا، إحنا إخطينا بحق الأرض ولازم نصلح غلطتنا ونعيد لها شبابها……………….
ـ أضرب بقوه يا فريد لتقلب الأرض، وتجيب عاليها واطيها، شد إيدك على المعول حتى تجيب ضربتك تاليها.. الخير بدّه طولة بال وصبر وعزيمه.. وما بيكفي ندق أرضنا دق7 لازم نغيّر وجهها ونقلب حالها…
الشمس أشرفت على المغيب وتجاوزت خريف عمرها اليومي قبالتهم، وبدأ إحمرار الشفق يكسو هامات التلال المحيطة. وهما يواصلان قلب الأرض بقوة، والأرض العطشى تتلقف العرق النضّاح وتبتلعه بشراهة وشهيّة.. فيما اللون الأحمر الشّفقي يشع في عينيهما، وفي عيون الجيش الصغير الذي يقفز هنا وهناك، ويزقزق كالعصافير على أعتاب الربيع.
………………………………….أواخر 1985……………………………….
- أحد أبواب سور القدس البلدة القديمة غرب باب العامود.
- الشركة الرئيسية الإسرائيلية لحافلات النقل العام.
- إشارة إلى المناطق المحتلة عام 1948.
- سوق تجاري مقابل باب العامود في آخره ساحة يتواجد فيها عمّال المياومة العرب.
- مُلوّث، قذر، وسخ، مُدنّس بالعبرية.
- ابن غير شرعي، ابن زنا بالعبرية.
- إشارة إلى رواية شمس في يوم غائم للأديب السوري حنا مينه.