عربي

الفاشر تنزف ذهباً ودماءً: صراع الذهب والنفوذ يُمزّق السودان وسط دعم خارجي وصمت دولي

ريم حسن خليل

تعيش مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، واحدة من أحلك لحظات تاريخ السودان الحديث. فبعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحولت المدينة إلى مسرح مفتوح لمجازر وحصار خانق وانتهاكات ممنهجة ضد المدنيين. منذ ربيع 2024 تقريباً، طوقت قوات الدعم السريع المدينة من كل الجهات، وقطعت عنها الغذاء والدواء، مما أدى إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة. المستشفيات خرجت عن الخدمة، والمراكز الطبية تعرضت للقصف، ومخيمات النزوح التي كانت ملاذاً للمدنيين أصبحت أهدافاً عسكرية. تقارير منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” وثّقت عمليات إعدام جماعي في الشوارع، واغتصابات بحق النساء والفتيات، وعمليات قتل على أساس الهوية الإثنية، وكشفت عن فيديوهات موثّقة تُظهر عناصر من قوات الدعم السريع يحتفلون بمقتل مدنيين، وينفّذون بشكل ميداني إعدامات، مع إساءة معاملة لجرحى، كل ذلك في محيط الفاشر. وتشير التحقيقات إلى أن الاستهداف في دارفور -ما فيها الفاشر- يستهدف جماعات إثنية مثل الماساليت، من خلال عمليات ترحيل قسري واغتصاب وقتل خارج نطاق القانون.

لكن ما يحدث في الفاشر ليس مجرد حرب أهلية بين جيشين متناحرين، بل هو جزء من شبكة أعقد بكثير من المصالح الإقليمية التي تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد. فإقليم دارفور، الذي طالما كان ساحة للصراع العرقي، أصبح اليوم قلب الصراع على الموارد، وخاصة الذهب. فالسودان يُعدّ ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بإنتاج سنوي يُقدّر بنحو 80 طناً، غير أن ما بين 50 إلى 80 في المئة من هذا الإنتاج يُهرّب عبر قنوات غير رسمية. معظم هذا الذهب ينتهي في دبي، حيث تُعتبر الإمارات مركزاً رئيسياً لتجارة الذهب الأفريقي، وقد أشارت تقارير غربية إلى أن الذهب السوداني المهرّب يُعد أحد أهم مصادر تمويل قوات الدعم السريع.

بحسب دراسات من Chatham House وForeign Policy، تسيطر قوات الدعم السريع على مناجم كبرى في دارفور، وتستخدم أرباحها لشراء الأسلحة والطائرات المسيّرة، التي تصلها بدعم لوجستي وتمويل إماراتي غير مباشر. في مارس 2025، رفع السودان دعوى أمام محكمة العدل الدولية يتهم فيها الإمارات بتقديم دعم عسكري ومالي لقوات الدعم السريع، وبالتورط في “تمكين الإبادة الجماعية” في دارفور. وبينما تنفي أبوظبي هذه الاتهامات، تُظهر الأدلة تزايد حجم شحنات الذهب السوداني إلى الإمارات حتى خلال ذروة القتال، ما يعزز فرضية أن الحرب تُموّل من عائدات هذا المعدن النفيس.

السيطرة على الفاشر تمثل هدفاً استراتيجياً بالنسبة للدعم السريع، إذ تفتح الطريق نحو كامل شمال دارفور، وتؤمّن خطوط الإمداد عبر ليبيا وتشاد. سقوط المدينة قد يؤدي إلى تقسيم فعلي للسودان، بحسب تحذيرات خبراء دوليين، خصوصاً مع عجز الحكومة في بورتسودان عن استعادة السيطرة أو تأمين المساعدات الإنسانية. وتبدو الأمم المتحدة عاجزة عن التحرك، رغم تأكيد منظماتها أن ثلاثة من كل أربعة أطفال في الفاشر يعانون من سوء تغذية حاد.

ما يحدث في الفاشر هو تجسيد لمأزق مركّب ومعقد؛ مدينة محاصرة تعيش على وقع الخوف والموت، وأبناء يواجهون الجوع والقتل، فيما تُستنزف مواردهم وتُنهب ثرواتهم بينما تنهار الدولة بمعناها التقليدي. القوى العسكرية المحلية تستغل هذا الفراغ لفرض نفوذها، في حين يلعب الداعم الخارجي، وعلى رأسه الإمارات، دوراً محورياً في تغذية الصراع من خلال تمويل قوات الدعم السريع بالمال والسلاح مقابل السيطرة على الذهب وطرق تهريبه. هكذا يتحول الصراع من نزاع داخلي إلى حلقة في لعبة جيوسياسية أوسع تربط السودان بشبكة مصالح تمتد من مناجم دارفور إلى موانئ البحر الأحمر وأسواق الذهب في دبي.

إن ما يجري اليوم لا يمكن اختزاله في كونه مأساة إنسانية فحسب، بل هو انعكاس لانهيار شامل لمؤسسات الدولة السودانية، وتحوّل ثرواتها إلى وقود لصراعات إقليمية واقتصادية تتجاوز حدودها. وبينما يُذبح المدنيون وتُحاصر المدينة بالجوع والمرض، تُهرَّب أطنان الذهب عبر الصحراء لتغذي اقتصاداً خارجياً لا يرى في دماء دارفور سوى ثمناً للثروة والنفوذ. في ظل هذا الصمت الدولي المريب، تنزف الفاشر ذهباً ودماءً، وتتحول من رمزٍ لصمود أهل دارفور إلى شاهدٍ على خيانة العالم، وعلى تحالف المال والسلاح الذي جعل من السودان ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية. ولإنهاء هذه الدوامة لا يكفي وقف إطلاق النار، بل لا بد من إعادة بناء العدالة والاقتصاد والمؤسسات، وفك الارتباط بين الموارد الطبيعية وتمويل الحرب، حتى تستعيد الفاشر والسودان معاً حقهما في الحياة والكرامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى