صفحات من تاريخ تصفية الخصوم في روسيا بين الاتهامات والحقائق – بقلم: د. أيمن أبو الشعر
• أليس من المرجح أن تقوم المخابرات الغربية بتصفية خصوم الرئيس الروسي تحديدا لكي توجه التهم إليه؟
• ألا يلفت النظر أن هذه الحادثة جرت قبل شهر واحد من الانتخابات الرئاسية التي سيخوض غمارها الرئيس بوتن
لم يكن صدفة أن يعلن فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما الروسية أن المستفيد الحقيقي من وفاة المعارض الكسي نافالني هما واشنطن وبوركسل بالدرجة الرئيسية، ما يدفعنا إلى استحضار العبارة الحكيمة جدا والمنتشرة لدى كل الشعوب للتأمل حقا: “فتش عن المستفيد من الجريمة”!
ليس سرا أن الدول الاستعمارية الكبرى قامت وتقوم بتصفية خصومها دائما بأساليب متنوعة، وخاصة عبر دعم الانقلابات، وحتى اقتحام الدول لإسقاط الأنظمة، وكذلك من خلال افتعال الحروب الداخلية وتزويد الأطراف التي تناصرها بالسلاح والمرتزقة حتى لو أدى ذلك لقتل المئات، بل والآلاف من المدنيين الذين لا ناقة لهم في هذه المعمعات ولا جمل، ومن بين أساليبها الماكرة اغتيال أشخاص معارضين لخصومهم من الزعماء بحيث تتوجه الشبهات إلى هؤلاء الخصوم.
-تجارب الشعوب تؤكد ذلك
والملفت للنظر في بعض الحالات أثناء الإعداد لإسقاط هذا النظام أو ذاك ظهور جماعات ماكرة مأجورة بين الجماهير الغاضبة المعادية للسلطة المعنية، وتقوم باستغلال الفوضى الصاخبة وتطلق النار على الفريقين- على ممثلي الدولة وقواها الأمنية، وعلى المتظاهرين بآن معا لكي تسيل الدماء، وتستنهض عند الطرفين الرغبة في الانتقام، وبالتالي كيلا يكون هناك مجال إلى أية مصالحة قد تعيق مخطط ومصالح هذه الدول، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
من هنا يطرح السؤال نفسه أليس من المرجح أن تكون المخابرات الغربية هي التي تقف وراء اغتيال هذه الشخصية الروسية المعارضة أو تلك، والهدف واضح وبسيط يتمثل في عجز الدول الغربية عن تغيير النظام في روسيا، وبالتالي تسعى للإساءة إلى سمعة الرئيس بوتن الذي يعتبره الغرب الخصم الأول على الساحة الدولية خاصة مع نجاح تحالفه مع الصين، وإنشاء أضخم تحالف اقتصادي عبر بريكس، وليس هناك أية خصومة إيديولوجية مع الغرب كما كان الأمر أيام الاتحاد السوفييتي، فروسيا اليوم لا تطرح بناء الاشتراكية، ويعمل فيها رأس المال الحر وفق قوانين السوق .
-أهم الاتهامات السابقة دون أدلة قاطعة
جميع الأمثلة اللاحقة تطرح التساؤل نفسه: ماذا سيستفيد الكرملين من تصفية هؤلاء؟ وحتى بالنسبة لنافالني الموجود في سجن في أقصى شمال روسيا، ومحكوم عليه بالسجن تسعة عشر عاما لم يمض منها سوى سنة واحدة ونيف وشعبيته لا تتعدى اثنين إلى ثلاثة بالمئة، فأي خطر يمكن أن يشكل على بوتن؟
ولو عدنا إلى أهم حوادث الاغتيال في فترة الرئيس بوتين لوجدناها لا تصمد إبان البحث عن الأدلة الواقعية، وأمام حجم المبرر، ويشار في هذا الصدد إلى سيرغي يوشينكوف زعيم حزب روسيا الليبرالية الذي كان مناهضاً للكرملين، حيث أطلق النار عليه قرب منزله في موسكو عام 2003، وقالت الشرطة آنذاك أن عملية الاغتيال قام بها قاتل محترف مجهول بإطلاق اربع رصاصات أصابت يوشينكوف في ظهره بعد خروجه من سيارته… وقد أرسل بوتين نفسه تعازيه إلى أسرة يوشينكوف، وقال عنه بأنه مدافع عن الحريات والقيم الديمقراطية، وقد جرت الحادثة قبل عشرة أشهر من الانتخابات الرئاسية أي إبان الحملات الدعائية الانتخابية.
ويتهم بوتين أيضا بأنه وراء محاولة اغتيال الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يوشينكو لأنه ينافس المرشح المحسوب على موسكو يونوكوفيتش!!! من له مصلحة في ضجة كهذه؟ وكانت واشنطن والغرب عموما يدعم يوشينكو الموالي له بشكل مطلق والذي كان أول من أحيى رموز النازية واعتبر بانديرا بطلا قوميا، الغريب في الأمر أن يونوكوفيتش فاز في الانتخابات فشكك الغرب بها وأعيدت للمرة الثانية ففاز يونوكوفيتش وخلافا لجميع القوانين لم يقبل الغرب وأعيدت الانتخابات للمرة الثالثة حتى تم انتخاب يوشينكو!!! غريب أليس كذلك، ويبدو أن عملية التسميم أعطت ثمارها لكن يوشينكو دفع جراءها ثمنا غاليا إذ تشوه وجهه بشكل كبير.
ثم تأتي حادثة تسميم مسؤول لجنة أمن الدولة السابق ليتفينينكو بالبولونيوم 2006 والذي غدا أيضا عميلا لجهاز الأمن الروسي، وذلك بعد هربه إلى بريطانيا حيث وجه الاتهام أيضا إلى الكرملين وتحديدا إلى الرئيس بوتن شخصيا، وأن القتل تم عبر ضابطين سابقين في الكي جي بي – جهاز أمن الدولة هما كوفتون ولوغوفوي حيث يقال أنهما تناولا العشاء معه في مطعم للسوشي، ثم تدهورت صحته ثم أعلن أن موته كان بتأثير البولونيوم 201.
وقد أثيرت ضجة كبرى حول مقتل بوريس نيمتسوف في فبراير 2015 وهو سياسي صعد بسرعة واحتل مناصب عديدة بما في ذلك كعضو في الدوما، وحتى في منصب حكومي رفيع، وكان الشخصية الثانية في فريق يغور غايدار الذي غدا رئيسا للحكومة الروسية أوائل التسعينات، وكان رصيدهم الشعبي ضئيلا جدا، ومع ذلك يلفت النظر أن نيمتسوف الذي كان معارضا للرئيس بوتن، وبشكل خاص فيما يتعلق بأوكرانيا كان قد ظهر قبل ثلاث ساعات من مقتله “من الساعة الثامنة وحتى التاسعة مساء” في لقاء عبر إذاعة صدى موسكو “الموالية للغرب” هاجم خلالها الرئيس بوتين، ثم راح يتمشى مع عارضة أزياء أوكرانية هي آنّا دوريتسكايا بعد تناولهما العشاء، والطريف أن تنزههما مشيا على الأقدام كان فوق الجسر الكبير لنهر موسكو غير بعيد عن الكرملين، ومن جديد تتهم الأوساط الغربية التي كان نيمتسوف حليفا لها الرئيس بوتن بهذا الاغتيال، ثم تكشف التحقيقات المجموعة المسلحة التي قامت بالاغتيال لقاء خمسة عشر مليون روبل، وحكم على أعضائها بالسجن لفترات كبيرة.
كما استغلت قضية الجاسوس الروسي المزدوج سكريبال بشكل هائل، فقد اتهمت بريطانيا موسكو بتسميمه مع ابنته بغاز الأعصاب حيث كانا يعيشان في بريطانيا، ووجدا فاقدين الوعي على مقعد في مكان عام في مدينة سالزبري، وكانا بحالة حرجة وتسبب الحادث بإثارة غضب شديد لدى بريطانيا التي قامت بطرد ثلاثة وعشرين دبلوماسيا روسيا إثر هذه الحادثة متهمة إياهم بأنهم ضباط استخبارات، وألغت تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك زيارة كانت مقررة لوزير الخارجية الروسية لافروف إلى لندن، ومع ذلك نفت موسكو أي دور لها في ذلك وطالبت بتقديم أدلة ملموسة قبل توجيه الاتهامات وكأنها حقيقة، وأعلن الكرملين أنه لن يقبل أية اتهامات غير مدعومة بأدلة قاطعة. ومن جديد أية فائدة سيجنيها بوتن من تصفية عميل سابق يمكن أن قدم منذ زمن بعيد كل ما في جعبته من معلومات وتصفيته لن تفعل سوى إثارة ضجة سلبية وتخريب العلاقة مع بريطانيا.
والجدير بالذكر أن أجهزة التحقيق الروسية تمكنت من كشف بعض الجرائم كما في مقتل المحامي ستانيسلاف ماركيلوف والصحفية أناستاسيا بابوروفا في موسكو عام 2010 وكذلك مقتل عالم الانتربولوجيا نيكولاي جيرينكو في بطرس بورغ عام 2004 وكانت القوى اليمينية المتطرفة وراء حوادث الاغتيال تلك.
لا بد من أشارة أخيرة للنبهاء” توفي نافالني في السجن إثر توعكي صحي في السادس عشر من فبراير شباط 2024، ويتجري الانتخابات الرئاسية التي سيخوض غمارها الرئيس بوتن في 17 مارس – آذار القادم… أي بعد شهر واحد تحديدا…هل يوحي ذلك بشيء ما؟”