تحليل أوّلي لما جرى ليلة أمس.. هل ستتوقّف المُواجهة عند هذا الحد.. أم أن هناك تصعيدا أكبر؟ وما الدرس الذي يجب أن تستوعبه حكومة الاحتلال؟
د. سعد ناجي جواد
كاتب واكاديمي عراقي
ليلة أمس نفذت إيران ما وعدت به بانها سترد بقوة على عدوان إسرائيل على قنصليتها في دمشق والذي نتج عنه مقتل قادة في الحرس الثوري الإيراني. حجم الرد لم يكن بسيطا او صغيرا او عابرا، ( حتى وان اعتبرته ايران كذلك). فلقد تم ارسال ما بين 200 إلى 300 طائرة مسيرة وصاروخ باليستي إلى عمق فلسطين المحتلة. ويبدو ان ايران ارادته كذلك لكي تجعل إسرائيل تدرك بان استهداف قادتها العسكريين ومواقعها داخل وخارج ايران لن يمر بسهولة. بالتأكيد ان محبي ومؤيدي ايران سيشيدون بهذا الإنجاز الكبير، وهو كذلك بكل المقاييس، من حيث الحجم وعدد المسيرات والصواريخ والمناطق الاستراتيجية التي استهدفها، في حين ان أعداء ايران سينقسمون قسمين. القسم الاول، والذي كان يسخر من تهديدات ايران، بدأ يغير نبرة حديثه واتهم ايران بان ضربتها جاءت بالتنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة لحرف الأنظار عن ما يجري في غزة، والقسم الثاني، وعلى رأسهم إسرائيل نفسها والولايات المتحدة، سيقللون من اهمية هذه الضربة وسيدّعون انها لم تحقق اي انجاز، وانها تسببت بأضرار طفيفة، وان المقاومات والمقاتلات الاسرائيلية والأمريكية والبريطانية والفرنسية، أسقطت اغلب الصواريخ والمسيرات. وهذا أسلوب اسرائيلي معروف.
الكل يتذكر عام 1991 عندما أطلق العراق 43 صاروخا على إسرائيل، وكيف ادعت إسرائيل انها لم تصب اي هدف مهم، بل وسخرت منها، هي واعداء النظام العراقي السابق آنذاك، ثم في الذكرى الثلاثين لتلك الواقعة (2021) سمحت بنشر صور وفيديوهات عنها أظهرت مدى دقتها والدمار الذي احدثته، واعترفت انها تسببت بمقتل 74 إسرائيليا وجرح 230 اخرين وتدمير 7500 مبنى، ناهيك عن الأضرار التي اصابت البنى التحتية في تل ابيب وحيفا وصفد. وهذا ما تقوله إسرائيل اليوم عن الهجمة الإيرانية، ولكن الحقيقة تقول عكس ذلك، وهذا ما اعترفت به إسرائيل بصورة غير مباشرة، حيث ذكر إعلامها ان الهجمة كانت عالية التنسيق، وكذلك من خلال رفع حالة التأهب إلى أقصى مدى سواء في إسرائيل او في واشنطن، ويظل افضل دليل على خطورة ودقة العملية المؤتمر الصحفي الذي عقده الناطق العسكري باسم جيش الاحتلال. فمن شاهده ودقق في تعابير وجهه ولغة جسده والطريقة المبتسرة التي تحدث بها يمكن ان يستنتج كم مؤثرة كانت الضربة الإيرانية من الناحية المعنوية على الاقل، هذا إذا ما قبلنا بالكذبة الإسرائيلية الرسمية التي تقول بان 99% من الصواريخ والمسيرات قد تم اسقاطها!
في تحليل ما حدث ليلة امس يجب ان يؤخذ بنظر الاعتبار عدة أمور مهمة. اولها ان هذا الهجوم الكبير قد تم تنفيذه من داخل ايران وكانت القيادة العسكرية الإيرانية واضحة في تبنيه (ولو انها اعتبرته محدودا). وهذا تطور لافت جدا في عملية المواجهة بين ايران وإسرائيل، وهذا ويعني ان سياسة ايران في الاعتماد على اذرعها في المنطقة قد وضعت جانبا، (ولو ان بعض التقارير تحدثت عن إطلاق مسيرات من العراق ولبنان واليمن). الأمر الثاني هو اعتراف إسرائيل بالتنسيق الجيد الذي اتسمت به تلك الضربة وكثافتها (بعض التقديرات الاسرائيلية قالت ان عدد الصواريخ والمسيرات قد تجاوز الثلاثمائة). ويبدو ان القيادة العسكرية الإيرانية قد استخدمت مسيرات وصواريخ من أنواع مختلفة بعضها بسيط والبعض الاخر متطور جدا، ومن وجهة نظر شخص مدني بسيط فان ايران كانت تهدف بالأساس إلى ضرب القاعدة الجوية في النقب وقاعدة عسكرية اخرى، وانها نجحت بذلك باعتراف الإعلام الصهيوني. الأمر الثالث هو ان ايران أبقت الباب مفتوحا امام تكرار مثل هذه العملية عندما أعلنت بان اي رد من إسرائيل او الولايات المتحدة سيقابل برد فعل إيراني اكبر. ورابعا ان إسرائيل احتاجت لدعم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للتصدي لهذا الهجوم، الأمر الذي يكشف مرة اخرى ضعف القدرات العسكرية الاسرائيلية. وهذا هو التصعيد الأكبر والأخطر الذي يضع المنطقة، بل والعالم على كف عفريت، وذلك لعدة اسباب، أهمها ان من يعرف طبيعة نتنياهو واعضاء حكومة الحرب المصغرة، وطبيعة الوزراء المتطرفين في الحكومة يعلم جيدا ان إسرائيل سترد على هذه الهجمة بهجمة مقابلة، ورغم كل طلبات الرئيس الامريكي وادارته من اسرائيل ان لا يرد، بدعوى ان الضربة الإيرانية قد فشلت في تحقيق اية نجاحات، الموقف الأمريكي محكوم بأمرين الاول الخشية من اتساع رقعة الصراع في الوقت الحاضر خشية دخول أطراف اخرى، وخاصة روسيا الى جانب ايران، والثاني قوله ان واشنطن لن تشترك باي رد اسرائيلي، ما يعني انه لا يقف بالضد من اي رد إسرائيلي. السبب الاخر هو ان من له علم بسياسات الحكومة الاسرائيلية الحالية يدرك جيدا انها تعتبر الانتقام هو اساس سلوكها، وانها تعتبر السكوت هو حالة ضعف، وانها تعتبر الرد بقوة مفرطة يبقي صورتها كقوة مؤثرة، وهي تتناسى ان الضربة التي وجهتها لها المقاومة في غزة يوم 7 اكتوبر، وصمودها الأسطوري لحد هذا اليوم قد اثبت فشل كل استراتيجيات (العنجهية والبلطجة) التي اعتمدتها حكومات الاحتلال منذ بداية الاحتلال في عام 1948 ولحد اليوم، وان اي رد فعل سيُصعِّد من احتمالية توسع المواجهة وحدتها.
من ناحية اخرى ان ما يُزيد من خطر التصعيد هو العودة إلى رغبة حكومة الاحتلال في استهداف البرنامج النووي الإيراني مستغلين ما جرى ليلة امس. وهذا يمكن استنتاجه من تصريح نتنياهو الذي قال فيه (ان العالم قد اكتشف حقيقة ايران، وانه وقف إلى جانبنا ويدعم هدفنا في القضاء على التهديد الإيراني العسكري والنووي). وواشنطن ولندن وباريس يشتركون في هذا الهدف.
لكن المشكلة الأكبر في تفكير قادة الاحتلال الاسرائيلي تبقى هي انهم ولحد اللحظة لم يستطيعوا ادراك ان جيشهم وسياستهم قد هزمت في غزة وفي فلسطين وفي المنطقة، وان سمعة كيانهم قد وصلت إلى الحضيض حول العالم، وان كل جرائم الابادة التي يقومون بها لن تغير من واقع الأمر شيئا، وان الحل الوحيد أمامهم هو الاعتراف بهذه الهزيمة والعمل على الإقرار بالحقوق الفلسطينية. وان كان لديهم من عقلاء فعليهم ان يُذَّكِروا ساستهم بتجارب سابقة حاولت فيها حكومات احتلال غاشمة الاصرار على فرض هيمنتها بالقوة المفرطة ثم اضطرت بعد ذلك للاعتراف بالهزيمة والانسحاب (فرنسا في الجزائر، اميركا في فيتنام وافغانستان والعراق، النظام العنصري في جنوب أفريقيا، ناهيك عن النماذج الاخرى في امريكا اللاتينية). وللإنصاف فان عددا غير قليل من الكتاب والقادة العسكريين الاسرائيليين واليهود، قد كتبوا ناصحين وشددوا على ضرورة الاعتراف بان إسرائيل قد هزمت في معركة طوفان الأقصى، وان جيش الاحتلال عاجز عن تحقيق (الانتصار) الذي وعد به قادته، ولكن نتنياهو يرفض القبول بهذه الحقيقة، ليس لأنه لا يُدرِكها، ولكن لأنه يعلم جيدا بان القبول بها يعني اعترافاً بفشل سياسته والذي سيقوده لا محالة إلى المحكمة والسجن، وستنفتح عليه كل ملفات الفساد السابقة، مضافا لها فشله وفشل ادارته في توقع ما حصل في 7 اكتوبر الماضي.
الايام القليلة القادمة ستبقى حرجة وتُنذر بتطورات خطيرة كثيرة، وعلى الجميع ترقب ما سيحدث، وخاصة رد الفعل الإسرائيلي لأنه سيكون المؤشر على ما ستشهده المنطقة، حربا شاملة ام تهدئة حذرة.