صحافة وآراء

احتجاجات المزارعين في أوروبا مرحلة من انهيار الاتحاد الأوروبي وبروفة لثورات الدول النامية

إن عالمنا الراهن يدخل فترة من الاضطرابات الهائلة والفوضى والهجرات الكبرى، وليس من الواضح إلى أين سيفضي كل هذا.

قد يبدو النطاق الواسع لاحتجاجات المزارعين في أوروبا غير متوقع للوهلة الأولى فحسب.

ويبرز السبب المباشر والقصير هو استيراد المواد الغذائية الأوكرانية الرخيصة، فضلا عن انخفاض دخول المزارعين بسبب التضخم والمتطلبات البيروقراطية المجنونة لـ “التحول الأخضر”.

فعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار الغاز في ألمانيا بنسبة 21% في النصف الأول من عام 2023، وأسعار الكهرباء بنسبة 31%. في بولندا، واعتبارا من منتصف عام 2024، سترتفع أسعار الكهرباء بنسبة 80%، بينما انخفض الدخل ويتم تدمير الطبقة الوسطى بسبب التضخم.

إن الاتحاد الأوروبي وأوروبا بصفة عامة ليسوا سوى مستنقع عفن في تغليف أنيق، وقد حافظت أوروبا على ازدهارها بسبب جمودها والطاقة الرخيصة التي كانت تحصل عليها من روسيا. علاوة على ذلك، فقد ضرب التدهور والأزمات أوروبا قبل فترة طويلة من الحرب في أوكرانيا.

وتخلف الاتحاد الأوروبي حتى عن الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت هي نفسها تخسر ثقلها الصناعي والاقتصادي وتغرق في الأزمة. وبينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 15 تريليون دولار في عام 2010، كان الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا 14.5 تريليون دولار (أي 97% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة)، أما في عام 2021، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي 23.3 تريليون دولار، ونظيره في أوروبا 17.2 تريليون دولار (أي 73.8% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة).

احتجاجات المزارعين في أوروبا مرحلة من انهيار الاتحاد الأوروبي وبروفة لثورات الدول النامية

وأصبحت أوروبا بفضل الغطرسة، وطرح نفسها كنموذج مثالي للبشرية جمعاء، منفصلة عن الواقع وتحاول بناء مدينة فاضلة على أساس مبادئ بيروقراطية ذات سيطرة مفرطة وأبعد ما تكون عن قواعد السوق، وتتطور غالبا في اتجاه مسدود. والأزمة الزراعية الراهنة ليست سوى خطوة أخرى نحو انهيار الاتحاد الأوروبي.

وتشكل الزراعة الأوروبية مثالا واضحا على هذا النوع من عدم الكفاءة، حيث يتم إنفاق ثلث ميزانية الاتحاد الأوروبي على دعم المزارعين. وفي النرويج وسويسرا، رغم أنهما ليستا عضوين في الاتحاد الأوروبي، إلا أن إعانات الدعم هناك تمثل نحو 60% من دخل المزارعين، والوضع بالمثل في الاتحاد الأوروبي.

لهذا فإن تكلفة المواد الغذائية المنتجة في أوروبا مرتفعة للغاية، والمزارع غير مربحة، يتم دعمها فقط لأسباب تتعلق بالأمن الغذائي والحفاظ على طبقة الفلاحين الاجتماعية. وكان بوسع أوروبا أن تتحمل مثل هذه النفقات في ذروة ازدهارها، ولكن إعانات الدعم لم تعد كافية الآن.

على خلفية هذا المشهد تظهر أوكرانيا، التي تبيع المنتجات في السوق الأوروبية أرخص بمرتين إلى ثلاث مرات، وغالبا ما تستخدم الاحتيال الضريبي وعدم دفع الرسوم الجمركية، فيصبح المزارعون الأوروبيون على الفور، بطبيعة الحال، غير قادرين على المنافسة، في حين تتزايد الضغوط البيروقراطية في الاتحاد الأوروبي كل عام، حتى تنخفض انبعاثات الأبقار من ثاني أكسيد الكربون، وكي تصبح جميع حبات الطماطم بنفس الحجم تماما.

 فما السر وراء الانخفاض الكبير لسعر المنتجات الأوكرانية؟

أولا، تتمتع أوكرانيا بأراض خصبة للغاية، وهي شاسعة، حيث يوجد ما يصل إلى ثلث التربة السوداء في العالم. وقد تم شراء 17 مليون من أصل 62 مليون هكتار من الأراضي الزراعية الأوكرانية، أي ما يقرب من الثلث، من قبل 3 شركات أمريكية عملاقة للأغذية: كارغيل Cargill ودوبونت Dupont ومونسانتو Monsanto، بمساحة أكبر من مساحة كل الأراضي الزراعية في إيطاليا.

وكان هؤلاء في السابق يستأجرون تلك الأراضي، إلا أن زيلينسكي، في العام 2021، أجرى إصلاحا زراعيا يسمح للأجانب بشراء الأراضي.

علاوة على ذلك، تعيد الدولة الأوكرانية ضريبة القيمة المضافة إلى مصدّري المواد الغذائية، وهو ما يؤدي إلى إحداث فجوة في ميزانية البلاد، إلا أنه يضمن في الوقت نفسه رخص المنتجات الأوكرانية، وأرباحا هائلة للمصدرين. كذلك يسجل المصدرون الأوكرانيون بضائعهم للترانزيت عبر الاتحاد الأوروبي إلى دول ثالثة، لكنهم في واقع الأمر يبيعون منتجاتهم في السوق الأوروبية دون دفع الرسوم الجمركية.

لكن كل هذا مجرد حالة خاصة لظاهرة أكبر بكثير، هي ما وددت لفت الانتباه إليها.

إن التقنيات الزراعية الحديثة لا تتطلب الكثير من الموارد البشرية، فالعديد من العمليات الزراعية الآن تتم آليا ومن خلال روبوتات. وفي ألمانيا تبلغ حصة القوى العاملة المستخدمة في الزراعة 1%، في الولايات المتحدة 2%، وفي فرنسا 3%، وحتى هذه الأرقام تعد مرتفعة!!! أوكرانيا، في هذا السياق، تعد ساحة اختبار واعدة ومثيرة للاهتمام، باعتبارها تجربة تتمتع فيها الشركات بالحرية الكاملة لتقليص تكاليفها نظرا لحجمها الكبير، وقدرتها على التخلص من العمالة الزائدة، على النقيض من أوروبا، التي تحتفظ، بشكل مصطنع، بعدد زائد من صغار المزارعين لأسباب سياسية.

والآن إلى الأمر الرئيسي: تبلغ نسبة السكان العاملين في الزراعة بدولة النيجر 71%، في الهند 44%، في الصين 24%، في مصر حوالي 30%.

وهذه البلدان ملزمة بالخضوع للتحديث إذا أرادت ألا تصبح مرة أخرى غذاء للدول الأكثر تقدما، أو أن تصبح مستعمرات في العالم الجديد، حينما يعاد بناء الإمبراطوريات بعد انهيار الولايات المتحدة والعولمة التي أنشأتها. وهذا يعني قبول التقنيات الحديثة في الزراعة، وتداول الأراضي بشكل أكثر حرية مع تركيز الأراضي في يد الشركات الكبيرة. قد لا تزيد الإنتاجية لكل وحدة مساحة كثيرا، لكن من المؤكد أن القوى العاملة ستنخفض بشكل جذري.

تواجه البلدان النامية، في هذا الصدد، تحديا هائلا: فإما أن تتخلف عن ركب التنمية ويتم استيعابها أو إخضاعها من قبل الآخرين، أو تحدّث من تقنياتها الزراعية، ما يحرم عشرات ومئات الملايين من فلاحي الأمس من العمل، والذين على الأرجح لن يكون هناك طلب عليهم من الصناعة، التي سيتم تحويلها هي الأخرى إلى روبوتات. بل ولن تتمكن جميع البلدان من تطوير الصناعة في ظل أزمة فائض الإنتاج.

لذلك سيكون التوتر الاجتماعي هائلا، وأكبر بكثير مما شهدناه في السنوات الأخيرة بما في ذلك خلال الربيع العربي.

وفي حال عدم التحديث فقد يتوقف تقليص الفجوة بين البلدان الرائدة والبلدان المتخلفة عن الركب في مجال التنمية الاقتصادية، وقد يعود عدد من البلدان إلى اقتصاد وتنظيم اجتماعي أكثر بدائية.

إن عالمنا الراهن يدخل فترة من الاضطرابات الهائلة والفوضى والهجرات الكبرى، وليس من الواضح إلى أين سيفضي كل هذا.

المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى