يبدو أن الهوس الأمريكي التاريخي في خلق الفتن والصراعات على امتداد المعمورة ثم الحضور “الإنقاذي” لإدارتها ـ مجرد إدارة لا حلّ ومعالجة ـ يزداد هوساً باضطراد كلما اقتربنا من موعد الانتخابات الأمريكية الوشيكة أواخر هذا العام الصاخب. وهو ما يتجلى بصورة سافرة في الحفاظ على استمرار “عملية” التفاوض للإفراج عن “الأسرى” الإسرائيليين على اختلاف جنسياتهم أولاً وعاشراً ومن ثَم الحديث عن وقف عمليات الإبادة والتدمير والتهجير والتجويع تجاه قطاع غزة المنكوب.
وبعيداً عن الغوص في دهاليز الجولات المكوكية الرسمية للساسة والقيادات الأمنية الأمريكية والإسرائيلية والمؤازرة الأوروبية الغربية لها، والتي تذكّرنا بلعبة الأطفال.
“حامي بارد” لاستخراج ما أُخفي عنهم.. وبعيداً عن الغرق في مستنقع التصريحات المتناقضة والتي تذكّرنا برواية الكاتب الفلسطيني أميل حبيبي “المتشائل” ـ الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ـ فإن ما يجري يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن الهدف الأمريكي الإسرائيلي ينحصر في ديمومة عملية إدارة هذا الملف ليس إلا، لاعتبارات وحسابات داخلية بالدرجة الأولى ومحاولات تجميل الصورة الخارجية المفضوحة في المقام الثاني. مثلما يبرهن مجدداً على أن صانعي القرار الأمريكي هم مَن يدير تفاصيل المشهد بكافة عناصره، وأن التباكي على الأسرى الإسرائيليين والتظاهر بالحرص على حياتهم ما هو سوى ذر للرماد في العيون. والغريب أن ينساق الكثيرون خلف هذا التباكي على “الأسرى” الإسرائيليين ـ 120ـ ويصمتون على “الأسرى” الفلسطينيين القابعين في المعسكرات النازية الإسرائيلية ـ أكثر من 15000 يتزايد عددهم يومياً ـ فهؤلاء لا بواكي لهم.. والأغرب أن يعلو الصراخ والعويل على قتلى عصابات الإجرام الصهاينة العسكريين، مقابل إشارات خجولة لضحايا الأسلحة الأمريكية والأوروبية الغربية التي تفتك بلا رحمة أو هوادة بالمدنيين الفلسطينيين وغالبيتهم من النساء والشيوخ والأطفال حتى الرُّضَّع منهم..؟!
وسواء تمت الصفقة المتداولة حالياً لاعتبارات مصلحية أمريكية ـ إسرائيلية خاصة أم تواصلت عملية التفاوض والتسويف الماراثوني، فإن هذه الحرب المفتوحة على مصراعيها ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة والمشروعة ستتواصل إلى أن يذعن الأمريكي والغرب الاستعماري بعدم جدواها. وبطبيعة الحال فإن هذا الإذعان يرتبط عضوياً بالاقتناع الأمريكي الغربي باستحالة المحافظة على النظام العالمي الأحادي القطبية التي تتربع على عرشه الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه لا بدّ من الرضوح لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، والذي لن تتم ولادته إلّا قيصريّاً.
وكان الرئيس الأمريكي بايدن قد قالها صراحة ” أعتقد أن الأسباب وراء أفعال الحوثيين، والسبب وراء قيام حماس بما فعلته هو أنني كنت سأحصل على صفقة مع المملكة العربية السعودية وأردت تطبيع العلاقات. أعني التطبيع الكامل للعلاقات مع إسرائيل وإشراك ست دول عربية أخرى لتغيير الديناميكيات في المنطقة”، وأشار إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدة دول أخرى تحدثت في قمة العشرين المنعقدة في العاصمة الهندية نيودلهي العام الماضي 2023 عن دعم مشروع إنشاء ممر نقل اقتصادي يربط الهند بدول الشرق الأوسط وأوروبا، وأضاف مفصِّلاً “سيبنون خطّاً للسكك الحديدية من الرياض وصولاً إلى إنجلترا، وسيمر تحت الماء، وسوف يمتد من الرياض في المملكة العربية السعودية، ومن الإردن إلى إسرائيل وإلى ما بعد ذلك”. وبطبيعة الحال فإن هذا التصريح يكشف ما كان يُطبخ من إنهاء قطاع غزة مقاومة وشعباً عبر التهجير والتطهير والإبادة، وتحويله إلى ميناء وقاعدة عسكرية مشتركة أمريكية غربية إسرائيلية وسنغافورة جديدة والاستحواذ على ثرواته البحرية النفطية والغازية، وهو ما يفضح الحماس البريطاني والهندي والأوروبي الغربي وخاصة الألماني والفرنسي والإيطالي. مثلما يؤكد على أن عملية طوفان الأقصى كانت عملية استباقية اضطرارية لدرء المخاطر الكارثية التي كانت تُحضّر لقطاع غزة المحاصر والمنهك أصلاً ولتصفية القضية الفلسطينية من جذورها وإعادة تشكيل المنطقة العربية والشرق أوسطية برمتها.. وأن هذه العملية كانت زلزالاً مفاجئاً للضالعين في المقام الأول والكثير من المخدوعين والموهومين، وهو ما يفسّر الكثير من ردود الأفعال غير المبررة وغير المتوقّعة واللامنطقية بل والمستهجنة، والذين ينظر معظمهم إلى الفاعل وليس إلى الفعل ويتخذون مواقفهم تبعاً لذلك.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه بقوة، هل تم التخلي عن تلك الطبخة الجهنمية لتصفية القضية الفلسطينية ومشروع سنغافورة قطاع غزة بعد تحويلها إلى ركام غير قابل للحياة؟؟ تشير الوقائع على الأرض إلى تعثّر تنفيذ هذا المخطط الشيطاني، واحتدام الصراع الدامي حوله، وإدراك غالبية الشعب الفلسطيني وخاصة الغزّي الصامد ومعهم شتى قوى الإسناد اللبنانية واليمنية والعراقية المستهدفة ضمن حلقات هذا المخطط لما يجري ويُعدّ لهم وللمنطقة العربية والشرق أوسطية برمّتها. كما تشير مجريات الميدان إلى الأزمة الوجودية التي تعصف بالكيان الإسرائيلي، وافتضاح حقيقة هذا الكيان النازي المجرم أمام العالم أجمع، وخاصة الجمهور الأوروبي الغربي والأمريكي الذي خضع لأكبر عملية غسيل أدمغة وتضليل وخداع طيلة عقود طويلة.
واستناداً على ما تقدم، فإننا أمام حرب مفتوحة ستتواصل صعوداً وهبوطاً، وإن توقفت في هدن محدودة لالتقاط العدو أنفاسه ومراجعة تكتيكاته لا إستراتيجيته، وما هو معروض من صفقة في غزة حالياً يندرج في هذا الإطار. ويبقى على الدول الساعية لبناء نظام متعدد الأقطاب غير مبني على الغطرسة والهيمنة والتبعية والظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي مقدمتهم الاتحاد الروسي والصين الشعبية، اعتبار هذه الحرب الضروس حربهم، فالغرب الاستعماري يقاتل كافة ويفترض مواجهته كافة، كي لا يصل البعض إلى تكرار القول العربي المأثور: “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”..