ثقافة ومجتمع

أحد أهم عمالقة الأدب الروسي.. قصص تشيخوف باللغة العربية تفتح نافذة على عالم الكاتب الروسي العظيم

د. أيمن أبو الشعر

يعد صدور الأعمال القصصية الكاملة لأنطون تشيخوف باللغة العربية، في طبعة موزعة على 10 مجلدات، حدثا ثقافيا نوعيا يثري المكتبة العربية ويفتح نافذة واسعة على عالم الكاتب الروسي العظيم.

وتبرز هذه الطبعة، التي تضم ترجمات جديدة ودقيقة، عمق رؤية تشيخوف الإنسانية وقدرته الفذة على تصوير تعقيدات النفس البشرية.

ومن أبرز ما يحتويه هذا الإصدار قصة “السيدة صاحبة الكلب”، التي تعد من أروع قصصه الرومانسية، حيث يصور فيها الحب العاثر ببراعة تجعل القارئ شريكا في التأمل والبحث عن حل لمعضلتها الوجودية. فتشيخوف، كما عهده القراء، لا يقدم إجابات جاهزة، بل يترك للقارئ حرية التفكير والتأويل، مشعلا بذلك شرارة حوار لا ينتهي بين النص ووعي المتلقي.

كوكبة إبداعية ساطعة في القرن التاسع عشر

قدمت روسيا أروع مبدعيها في القرن التاسع عشر الذي يعتبر بحق العصر الذهبي للأدب الروسي، فقد أبدع فيه عمالقة خالدون من أمثال ألكسندر بوشكين صاحب الرواية التاريخية “ابنة الآمر”، وميخائيل ليرمنتوف صاحب رواية “بطل من زماننا” التي يرجح أن دوستويفسكي نفسه قد تأثر ولو بنسبة صغيرة بأسلوبه في رصد البنية النفسية للبطل فيها، رغم أن بوشكين وليرمنتوف اشتهرا بالدرجة الرئيسية كشاعرين مميزين، وإيفان تورغينيف صاحب رواية “الآباء والبنون” الذي يوصف أحيانا بأنه مؤسس الأدب الروسي الحديث، وهي صفة تنطبق في الواقع على معظم عمالقة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، رغم أن الصفة الرئيسية تسبغ على ميخائيل لومونوسوف في القرن الثامن عشر. وبالطبع يبرز بسطوع ثلاثة عمالقة آخرين في القرن التاسع عشر وهم: ليف تولستوي صاحب “الحرب والسلام”، وفيدور دوستويفسكي صاحب “الجريمة والعقاب”، وأنطون تشيخوف صاحب “السيدة صاحبة الكلب” التي سنتوقف عندها بعد قليل لما فيها من تناول نوعي جريء ومميز.

تشيخوف كاتب لكل العصور

شهرة تشيخوف الواسعة توفر علينا تقديم لمحة مطولة عنه، ونكتفي بأنه ولد في 29 يناير عام 1860 وتوفي في 15 يوليو عام 1904، لكنه قدم في هذه الحياة القصيرة كما ضخما من الكتابات الإبداعية القصصية والمسرحية المميزة حتى أن إحدى طبعات أعماله الكاملة جمعت باللغة الروسية في ثلاثين مجلدا.

امتاز تشيخوف بشكل خاص باستخدام أسلوب “تيار الوعي” الذي استخدمه فيما بعد بشكل رئيسي الكاتب الإيرلندي جيمس جويس. فنحن نرى في العديد من قصص تشيخوف هذا التدفق الانسيابي على لسان هذا البطل أو ذاك، أو في رصد المشاعر المحورية في هذه القصة أو تلك، قبل استخدام جيمس جويس لهذا الأسلوب بأكثر من ثلاثين عامًا.

يمكن اختصار أسلوب تشيخوف بأنه أسلوب واقعي موضوعي يهتم بالتفاصيل التي ينقل عبرها تنامي الحدث وظروفه، ويركز في غضون ذلك على المشاعر الداخلية للإنسان أكثر من الأحداث الخارجية. وبهذا يتلاقى كثيرا مع أسلوب دوستويفسكي الذي توغل أكثر في خبايا النفس الإنسانية. كما أن تشيخوف يعتمد البساطة في الصياغة رغم استخدامه الرموز في بعض قصصه لنقل معطيات فلسفية واجتماعية، وهو يمزج أحيانا السخرية بالتأمل في إطار نقل الأحداث أو عبر الحوارات. وحتى إن قصد التوجيه فإنه لا يطرحه بصيغة مباشرة، بل في إطار ذكي غير مباشر كما في “المربية المغفلة”.

ومن أشهر أعماله: “السهل”، “الرهان”، “الحرباء”، “البدين والنحيف”، “العم فانيا”، “بستان الكرز”، “المغفلة”، “الحياة في صندوق”. وكثيرا ما يترك للقارئ أن يجد الحلول للمعضلات المطروحة كما في “السيدة صاحبة الكلب”.

أعمال تشيخوف القصصية في 10 مجلدات بالعربية

من الأحداث الثقافية النوعية جدا صدور الأعمال الكاملة لأنطون تشيخوف في عشرة مجلدات عن دار “الرافدين”. وقد انبرى لهذا العمل الضخم عدد من خيرة المترجمين العرب، هم: الدكتور ثائر زين الدين، الذي قام بمراجعة وتدقيق هذا العمل الكبير إلى جانب مساهمته في الترجمة حيث ترجم ثلاثة مجلدات، والدكتور فالح الحمراني، والدكتور فريد الشحف، والدكتور منذر ملا كاظم.

ويعد هذا العمل إضافة مهمة يمكن أن تساهم إلى حد كبير في استعادة اهتمام الجمهور العربي بالمؤلفات التي ترفع من سوية الذائقة الجمالية. ولا بد من الإشارة إلى أن بعض أعمال تشيخوف قد ترجمت وصدرت في مراحل سابقة في مختلف البلدان العربية بجهود مترجمين كبار، في مقدمتهم أبو بكر يوسف الذي ترجم مختارات قصصية ومسرحية في أربعة مجلدات، وعدنان جاموس الذي ترجم “السهب” وقصصا مبكرة، والأديب خليل الرز الذي ترجم مختارات من قصص تشيخوف في جزأين.

يلفت النظر في هذا السياق أن الدكتور ثائر زين الدين نوّه في حوار صحفي موسع حول هذا العمل بأن اسم تشيخوف يتبادر إلى ذهن القراء فور سماعهم مصطلح “القصة القصيرة”، إلى جانب إدغار آلان بو. وشدد الدكتور ثائر على أن تشيخوف قدم، دون مبالغة، أعمالا خالدة، كما أن أعماله ألهمت حتى كبار الأدباء في العالم من أمثال أرنست همنغواي، وبرنارد شو، وتوماس مان، وغيرهم. ويذكر الدكتور ثائر بأن تولستوي نفسه كان معجبا بتشيخوف.

من ذكريات يالطا

ترتبط مدينة يالطا كمنتجع نوعي باسم تشيخوف الذي أمضى أوقاتا مهمة من حياته فيها كمصح نتيجة إصابته بمرض السل. والمهم أنه لم يتوقف عن الكتابة. وقد تركت زيارتي لبيته في يالطا أثرا عميقا في نفسي، فقد بدا أنه ليس كاتبا وحسب بل فنانا عاشقا للطبيعة، من خلال اهتمامه بالزراعة وانتقاء النباتات النادرة وزراعة بعض الأشجار بنفسه، بما في ذلك شجرة أرز لبنانية.

وروسيا التي تهتم بعظمائها، أبدع فنانوها في إقامة تماثيل لأبطال قصصه، وخاصة “السيدة صاحبة الكلب”، التي تراها قرب عشيقها في ناصية الشارع الرئيس في يالطا، من إبداع النحاتين غينادي بارشين وفيودور بارشين، ومن تصميم يوري إيفانتشينكو، تجسيدا للقاء بطلي القصة، خاصة أن أحداثها تبدأ في يالطا تحديدا.

السيدة صاحبة الكلب

يمكن القول إنها من أروع قصص الحب العاثر. تحكي باختصار عن ديمتري غوروف، الرجل الموسكوفي المتزوج الذي يعيش حياة مملة مع أسرته، ثم يلتقي في المنتجع الساحلي يالطا بآنا سيرغييفنا الشابة، وهو يكبرها تقريبًا بضعف عمرها. وهي متزوجة أيضا لكنها تعاني من الملل واللاجدوى، وترى أن حياتها الزوجية لا معنى لها إلا كمهمة اجتماعية.

ورغم أن ظروف اللقاء عابرة، فإن شرارة الحب تتنامى رويدًا رويدًا، حيث يشهد البحر على تأجج مشاعرهما. وحين تضطر آنا للسفر إلى مدينتها يتوادعان معتبرين أنه وداع إلى الأبد.

لكن ديمتري، وقد عاد إلى موسكو، يدخل في مرحلة شوق معذب، فلا يصبر ويسافر إلى بلدتها مترقبا ظهورها من بيتها الذي يعرف عنوانه. ينتظر طويلا بلا طائل، ويقرر العودة إلى موسكو. قبل سفره يحضر مسرحية، فيراها بين الحضور. ولخشيتها من الفضيحة الاجتماعية تطلب منه أن يغادر خفية عن زوجها، وتعده بأنها ستزوره في موسكو مؤكدة شوقها الجارف.

تبدأ لقاءاتهما في موسكو رغم شعور ديمتري بأنه يكبر آنا كثيرا، ويتأسف لأن الحب الحقيقي جاءه في الكبر. يبوح كل عاشق بمكنون نفسه ويبدآن البحث عن حل… وهنا أبرز تشيخوف الصراع الكبير بين تصاعد الحب الحقيقي وتصاعد الشعور بالذنب، باعتبار أن كلا منهما يمارس الخيانة الزوجية.

الرائع في تشيخوف أنه ينهي القصة معلقة، وكأنه يقول للقراء: تفضلوا، هاتوا ما عندكم، أوجدوا حلا…

الصورة قرب تمثال "السيدة صاحبة الكلب" لدى زيارتي ليالطا كرئيس للجنة تحكيم جائزة تشيخوف الدولية للإبداع عام 2019.
الصورة قرب تمثال “السيدة صاحبة الكلب” لدى زيارتي ليالطا كرئيس للجنة تحكيم جائزة تشيخوف الدولية للإبداع عام 2019.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى