
على الاتحاد الأوروبي التخلي عن خوض لعبة عض الأصابع مع روسيا لكي يحافظ على أصابعه من أجل توقيع معاهدة السلام وحسن الجوار
هكذا طبع الغرور فهو سرعان ما يجعل من صاحبه أضحوكة ومجالا للشفقة، وقد يقضي عليه نهائيا، ما يذكر بمغامرات الحمار الذي عثر على جلد أسد فارتداه، وصار يخيف بعض الحيوانات حين يمرُّ من أمامها، و لكن الثعلب استوقفه وطلب منه أن يزأر فأصدر نهيقا مزعجا ومضحكا في الآن نفسه فكشف نهيقه تزييفه، وفي حالة أخرى وقع الحمار نفسه تحت تأثير نصائح ابن آوى الذي أقنعه بأن من اعتبره أسدا وهرب منه هو في الواقع اتان -أنثى الحمار- قفزت لترحب به…المهم أنه تمكن في النهاية من إقناعه بذلك ومضى به إلى عرين الأسد فالتهمه “1”…
شاهدنا هنا هو غرور القادة في كييف بالادعاء والتبجح كما هو حال جلد الأسد، ففضحه نهيقه – تصرفاته- وزاد الطين بله ظهور ابن آوى – الغرب- الذي أقنع زيلينسكي أنه قادر ليس فقط على مواجهة روسيا بل وإلحاق هزيمة استراتيجية بها… وهنا الطامة الكبرى حيث اجتمع الغرور مع الوسواس الرجيم، ونسي القادة في كييف أن الغرب وخاصة الاتحاد الأوروبي يقدم المساعدات كي تخوص أوكرانيا الحرب بديلا عنه، ويتحقق بذلك على أرض الواقع ما يشاع في الأوساط الشعبية أن الاتحاد الأوروبي مستعد لمتابعة القتال ضد روسيا حتى آخر جندي أوكراني.
معطيات أوكرانية لافتة للنظر
في ثنايا التصريحات والإعلانات الأوكرانية الرسمية تظهر ملامح بداية الكارثة المحدقة بكييف والمصير المأساوي الذي بات يرتفع موجُه رويدا رويدا ولكن باطراد ليشكل تسونامي قد يمحق هذا البلد للأسف، والأسباب الواضحة للعيان هي التبجحات المناقضة لمعطيات الواقع، والتي تشبه نباح “براقش التي قضت على نفسها” “2” ففي المجال الميداني دأبت المصادر الأوكرانية على تزييف واقع المعارك وتحويل الهزائم إلى انتصارات رغم أن هذا الأمر بات مكشوفا، خاصة أنه يصل أحيانا في تقدير الخسائر الروسية بأرقام فلكية يفوق بكثير عدد العسكريين الروس الذين يقاتلون على خطوط التماس، والذين كشف الرئيس الروسي نفسه عن تعدادهم الذي يبلغ 700 ألف عسكري، في حين تدعي المصادر الأوكرانية أن الخسائر قرابة مليون ومئة ألف قتيل… تخيلوا المفارقة ومن الواضح أن هذه المصادر تحوِّل الخسائر الأوكرانية إلى روسية بكل بساطة بجرة قلم كما يقال !!! هذا الهراء يصاحبه تضخيم العمليات النادرة، حيث تدعي الدفاع الأوكرانية مثلا أن مقاتليها تسللوا إلى الأراضي الروسية وتمكنوا من زرع الألغام، وحتى تدمير جرار، ويصورون الأمر كعملية كبرى لزرع حقول ألغام أي على مبدأ شكسبير ” أسمع جعجعة ولا أرى طحنا” “3”، في حين يكاد يقتصر نشاطهم العسكري على القصف بالمسيرات واستهداف المناطق السكنية أو مصافي النفط وأنابيب الغاز، لكن القوات الروسية تسجل على أرض الواقع انتصارات مشهودة موثقة بالفيديوهات وبأسماء المناطق التي يتم تحريرها، حتى يمكن القول ان الوتيرة تكاد تكون تحرير بلدتين أو ثلاث بلدات أسبوعيا، وهذا يعني أن الغرب بإطالته أمد الحرب لن يفعل أكثر من أن يمنح روسيا مواقع جديدة، ذاك أن الملاحظ في الآونة الأخيرة وبعد تحرير كامل جمهورية لوغانسك والقسم الأكبر من دونيتسك وزاباروجيه وخيرسون، أن قسما من المعارك حاليا بات يدور في خاركوف، وسومي، ودنيبرو بيتروفسك، أي خارج دونباس وخيرسون وزاباروجيه حيث يتم تحرير الكثير من البلدات والقرى داخل أوكرانيا، وإن كان على مهل ما دفع بزيلينسكي إلى الصراخ بأن روسيا تريد احتلال أوكرانيا كلها.
بوادر الانهيار ومحاولة الإنقاذ
الخطأ الجهنمي الذي ورَّط “ابن آوى” -رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في حينه- به الأوكرانيين شكَّل عملياً أولى خطوات الانهيار المتسلسل والمتصاعد، حيث كان الوفد الأوكراني قد وافق عمليا على تكريس السلم وفق الشروط الروسية، لكن كييف انسحبت من مباحثات اسطانبول تحديدا تحت تأثير نصيحة جونسون، وما زالت تدفع ثمن تلك النصيحة التي سرعان ما تبناها الغرب بمعظمه مع الولايات المتحدة أيام بايدن، ثم قاد عملية توجيه كييف الاتحاد الأوروبي، وخاصة الثلاثي المهيمن بريطانيا وفرنسا وألمانيا بأطروحات جعلت العالم أحيانا على شفا الحرب العالمية الثالثة.
توقفت الولايات المتحدة عن مساعدة أوكرانيا ماليا، وحولت هذه المهمة أيام ترامب إلى أوروبا، حتى أن ترامب بعقليته التجارية أعلن بنوع من الزهو أنه يكسب من الحرب في أوكرانيا كونه يبيع السلاح وتدفع ثمنه أوروبا، لكنه مع ذلك يسعى لإيقاف الحرب!!! هكذا هي طبيعته في صدم الجمهور وإدهاشه، وهو يعي تماما أن على أوكرانيا الموافقة على ضم المناطق الروسية تاريخيا ومعظم سكانها من الروس إلى روسيا، ذلك يتيح لأوكرانيا أن تحافظ على نفسها كدولة، حتى أن كيث كيلوغ مبعوث الرئيس الأمريكي إلى أوكرانيا أوضح أن على أوكرانيا القبول بخسارة بعض أراضيها لأن الوضع قد يتغير على المدى الطويل!!!
الوضع المالي أنشوطة حول العنق
وهنا يظهر الجانب بالغ الحيوية لحياة واستمرار الدول، وهو الوضع المالي، فالجميع يدرك بما في ذلك أوكرانيا نفسها أنه لولا الدعم الهائل من الغرب لما صمدت أوكرانيا أمام جبروت القوة العسكرية والاقتصادية المالية لروسيا أكثر من أسبوعين أو ثلاثة، والسؤال هل ستتمكن أوروبا من تمويل حياة أوكرانيا وحربها في ظروف النفقات المتزايدة بشكل ملفت للنظر؟ وخاصة أن الإجراءات الأخرى في مضايقة روسيا بالعقوبات أثرت على الاقتصاد الأوروبي نفسه بينما حولت روسيا موارد طاقتها إلى الشرق، ولهذا يحاول الاتحاد الأوروبي الضغط مجددا عبر العقوبات والتضييقات على الاقتصاد الروسي وخاصة الطاقة والبنوك ويعد الحزمة التاسعة عشرة للعقوبات على روسيا، وهذه الحزم في الواقع تتالى دون أحداث نوعية مبررة بل لزيادة الضغط طالما استمرت الحرب التي هم يغذونها، ولو توقفت المساعدات الغربية إلى كييف لتوقفت الحرب بعد أسابيع قليلة، ذاك أن أوكرانيا وصلت إلى وضع لا تستطيع فيه أن تبقى كدولة دون المساعدات الغربية، هاكم إلى أين أوصلت نصائح “ابن آوى” هذا البلد.
الأرقام تدق ناقوس الخطر
ومع ذلك لنسترشد بلغة الأرقام قليلا مع الإشارة إلى أن هناك معطيات متفاوتة، وسنعتمد الأرقام الوسطى، حيث تشير بعض المصادر إلى أن تكلفة الحرب على روسيا تجاوزت 110 مليار دولار عام 2024 أي ما يقارب 7% من الناتج المحلي، وكان قد وصل إلى أكثر من 20% من الناتج المحلي في أوكرانيا عام 2024 حسب المصدر نفسه رغم تدفق ما يقارب 270 مليار دولار مساعدات من دول عديدة، لكن المذهل هذا العام هو أن الأوكرانيين أنفسهم يتحدثون عن أزمة مالية خانقة، حيث أعلنت النائبة في البرلمان الأوكراني أن الدين العام تجاوز 100% من الناتج المحلي، وأعلن وزير الدفاع شميهال أن أوكرانيا بحاجة إلى 120 مليار دولار للدفاع فقط في العام القادم، وتقول رئيسة لجنة الميزانية في البرلمان أن تكلفة الحرب يوميا تزيد عن 172 مليون دولار، كل ذلك يجعل تساؤل سيرغي إيفانوف عضو مجلس الأمن القومي الروسي حول مدى قدرة أوكرانيا أن تستمر في الحياة كدولة مشروعا، ذاك أن نقص التمويل سيكون عاملا قويا جدا في الفترة القادمة من المفترض أن يدفع أوكرانيا للقبول بالتسوية المقترحة، وإن استمر زيلينسكي في عناده فإن هذا سيدفع إلى توتر هائل يقرب العالم فعلا من الحرب العالمية الثالثة، خاصة إن ركب الثلاثي الأوروبي رأسه وشجع زيلينسكي في عناده، وما افتعال أزمة المسيرات في بولونيا ورومانيا والإدعاء بأن الطائرات المقاتلة الروسية اخترقت المجال الدوي لأستونيا سوى ارهاصات لمثل هذه الاحتمالات الجهنمية، لأن هزيمة أوكرانيا هي هزيمة للاتحاد الأوروبي عمليا الذي تشدق بأن هدفه أن تمنى روسيا بهزيمة استراتيجية، ولكن وصلت الحرب إلى لعبة عض الأصابع، وروسيا تمتلك خلافا لأوروبا أصابع متينة كادحة قاومت الصعاب والصقيع، وأسنانا حادة قطعت بها حتى القيود الفولاذية، لذا نأمل أن تتخلى أوروبا عن هذه المنافسة التي قد تفقد فيها أصابعها وأسنانها، وأن تحافظ على أصابعها لتوقيع معاهدة سلام وحسن جوار.
1- قصتان مشهورتان الأولى “الحمار في جلد الأسد من “كليلة ودمنة” لابن المقفع، والثانية من التراث الشعبي عموما
2- براقش اسم الكلبة التي تخبأ أصحابها في كهف حين داهم اللصوص قريتهم الصغيرة وحين هم اللصوص بالمغادرة نبحت عليهم، فاكتشفوا الكهف وقتلوا الجميع وبراقش معهم
3- المثل اشتق من طبيعة المسرحية التي عنوانها جعجهة بلا طحن لوليم شكسبير