ثقافة ومجتمعروسيا

“هنا، السماء صافية والأفق ذهبي”.. عن فلسطين بعيني فيازيمسكي – عماد الدين رائف

كانت رحلة فيازيمسكي إلى فلسطين رحلة إلى مكان ينتظر فيه إجابات عن الأسئلة "الأبدية". فماذا رأى في فلسطين؟

يحتلّ أدب الحج إلى الديار المقدسة في فلسطين مكانة بارزة في الإبداعات الكلاسيكية الروسية، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوجه الديني في روسيا القيصرية. وتجسّد أعمال الأدباء الروس الذين زاروا فلسطين في القرن التاسع عشر انطباعاتهم عن بلادنا نثراً وشعراً، حيث تتخطى البعد الروحي إلى الحياة اليومية في البلاد ومشاهد من الرحلة ومصاعبها.

وقد حظيت أعمال هؤلاء الأدباء بعناية كبيرة، ليس من النخب فحسب، بل من العامة الذين تلقفوها وقرؤوها بعناية قبل انطلاقهم في رحلاتهم الخاصة نحو القدس وبيت لحم.

ومن الأعمال التي اختزنت البعدين الروحي والدنيوي قصائد الشاعر الروسي بيوتر أندريفيتش فيازيمسكي (1792-1878) ورسائله. لم يكن فيازيمسكي شخصية عادية، فقد كان ناقداً أدبياً ومؤرخاً ومترجماً وناشراً، بالإضافة إلى كونه شاعراً وناشطاً اجتماعياً.

أسس فيازيمسكي “الجمعية الروسية للتاريخ” سنة 1866، وكان عضواً في الأكاديمية الروسية منذ 1839، وعضواً عاملاً في أكاديمية العلوم في سان بطرسبورغ منذ 1841. واشتهر بأنه الصديق المقرب لشاعر الروس الأكبر ألكسندر بوشكين (1799-1837).

في المرحلة الأولى من حياته الإبداعية اعتبر شاعراً من حلقة بوشكين وعرف بأنه قريب من حركة “الديسمبريين” المناوئين للقيصر. أما المرحلة الثانية فقد اتسمت بتراكم تجارب الحياة، حيث قلّت أعماله الأدبية، لكنها عبّرت عن نظرته إلى العالم، فتحول الشعر والمذكرات والنقد الأدبي لديه إلى التفكير في معنى الحياة ومأساة الوجود.

خلال هذه المرحلة توجه الشاعر مع زوجته إلى الشرق (إلى القسطنطينية وفلسطين) في نيسان/أبريل 1850، وحل في القدس بين 4 و20 أيار/مايو. كتب آنذاك سلسلة مقالات بعنوان “الرحلة إلى الشرق”، نُشرت عام 1883 بعد وفاته، على يد حفيده المؤرخ سيرغي شيريميتيف (1844-1918). كما انعكست انطباعاته الفلسطينية في قصيدتي “القدس” (1850) و”فلسطين” (1853) اللتين وصفها ناقد مجلة “البشير الروسي” بأنهما “أثمن عمل في شعرنا”، بالإضافة إلى قصيدتي “كنز واحد” (1853) و”إلى ألكسندر أندريفيتش إيفانوف” (1858).

تعتبر الناقدة الأدبية واللغوية الكبيرة أولغا ألكسندروفا – أوسوكينا أن هذه الأعمال يكمّل بعضها البعض، وهي تخلق معاً سردية فنية واحدة عن الاكتشاف الروحي لفلسطين، التي باتت “إنجازاً مقدساً” لدى الشاعر، حيث “ينبغي أن تكون كل ساعة ثمينة فيها مطبوعة في ذاكرة العقل والمشاعر والروح”، وفق فيازيمسكي.

يقول فيازيمسكي في قصيدته”إلى ألكسندر أندريفيتش إيفانوف”: “رأيت الأردن القديم،/ مُشبعاً بالمحبة المقدسة والخوف/ في موجاته البشارة/ جرن المعمودية/ غطستُ ثلاثاً/ أصلّي كي تغسل الموجة/ روحي بالنعمة/ فتزيل قروح الوجود وبقعه”.

الأرض المقدسة بالنسبة إليه كحاج، هي مطرح البحث عن الشفاء الجسدي والروحي معاً. لكن الشاعر فيازيمسكي يدرك أن الوصول إلى شفاء الروح عمل ضخم، فيما يميل الوعي الإنساني إلى الاستسلام والضياع.

ويقول فيازيمسكي عن ذلك في رسائله: “لا أعرف كيف أنظم ساعاتي، وقراءاتي، ونزهاتي… كل هذا لا أنظمه، بل هو غامض”.

يتنازع فيازيمسكي توجهان للوجود الإنساني: الارتباط المستمر بما هو يومي وعابر ومحدود، وفي الوقت نفسه الطموح المستمر إلى الأسمى. لذلك نراه يضيف في رسائله: “ها أنت تغادر المدينة المقدسة،… لقد فرغت من الواجب الجليل المقدس،… ها هي الموجة أتت لتحملك بعيداً وترمي بك في هاوية الهموم والإغراءات اليومية وفي صغائر الأمور والمشاحنات التي تتشكل الحياة الدنيا منها”.

وعن ذلك تحديداً يتابع فيازيمسكي في القصيدة المشار إليها: “من هذه الأفكار، من هذه الأيام،/ من بين هموم الحياة،/ كمٌّ ضئيل من الانطباعات الحية/ يبقى في روحي! لقد تلاشى تحت الإغراء/ وبرد الأباطيل اللاذع/ لم يعد في داخلي ذاك الحاج/ الذي كان منذ مدة طويلة/ يملأ وعائي الفارغ”.

“هنا السماء صافية، والأفق ذهبي”

يتوزع محتوى أوراق فيازيمسكي الفلسطينية بين قطبي الحاضر والأبد. يعكس في الأول مشاهد إثنوغرافية من الحياة اليومية، وحوادث مضحكة من الرحلة، وأوصافاً للمناظر الطبيعية في فلسطين، والمعابد والأديرة، والخدمة الدينية.

لكن خلف هذا التنوع في الملحوظات، يكمن القطب الثاني الذي يحمل صورة شمولية مملوءة بـــ “المحبة المقدسة والخوف”، حيث يرغب في تطهير النفس “من قروح الوجود وبقعه”.

بطبيعة الحال، يعبّر فيازيمسكي عن كل قطب بما يلائمه من لغة ومفردات. يرقى وصف فلسطين لديه إلى أدب الرحلة، يقول: “في بيت لحم، ملامح وجوه النساء عادية ونبيلة…  يغطين رؤوسهن بأوشحة بيض عادة، تشبه إلى حد كبير عصابة الرأس التي تستعملها النساء لدينا… قلّة المروج تعيب القدس، بل الشرق عموماً. لا توجد بقعة خضراء حريرية تريح العين ويستقر عليها الجسد، كما هي الحال في المناطق الشمالية”. ويعكس ذلك في قصيدته “فلسطين”، حين يقول “عبر السهول/ لا يجري أي نهر صاف/ وعلى الطرق الصامتة/ لا يُسمع صرير العجلات”.

ترى أولغا ألكسندروفا – أوسوكينا أن المألوف وغير المألوف يتزاحمان في أدب الحج، لذلك تكون فلسطين بالنسبة إلى الحاج الروسي مجهولة ومعروفة في آن معاً. كما يقول فيازيمسكي في قصيدة “الكنز الواحد”: “بدأت النفس تعيش كأنها في منزلها”.

فالقدس بالنسبة إلى الروس هي “مساحة أرضية – زمنية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بذكريات الطفولة والوطن، وبطريقة الحياة الروسية برمتها”. ويضيف في قصيدة “فلسطين”: “قبيل الفجر، في الصحراء/ أهرع على ظهر فرس/حاجاً إلى المقام/ المرتبط بي منذ الطفولة”.

يحتل المشهد الطبيعي، من الورد والهواء والماء، مكانة مهمة في وصف فيازيمسكي لفلسطين. يقول: “في الوادي، يزرع العرب الورد، الذي يزود دير القيامة بماء الورد. فإذا كانت حاسة الشم لها تأثير خاص على الذاكرة، والروائح تثير الذكريات فيها…، فإن ماء الورد سيكون من الآن فصاعداً مصدراً حياً عندي عن ذكريات القدس”.

ويلفت فيازيمسكي الانتباه إلى شفافية الهواء والجو المشرق، حيث يقول: “هنا لا يمكنك أن تقول إن الهواء أزرق، بل ذهبي. خاصة قبل غروب الشمس يصبح الجو أجمل. الشمس لا تغرب كما في أماكن أخرى في الأفق. هنا السماء صافية، والأفق ذهبي. اللون الذهبي ملفت للنظر بشكل خاص… أشجار الزيتون تصير داكنة، ويتقاطع الوادي كله مع الظلال الطويلة والخطوط الذهبية… عندما عدنا إلى القدس كانت أسوارها ذهبية بشكل رائع مع وهج الشمس الغاربة. لم يسبق لي أن رأيت مثل هذه الأشعة الذهبية”.

أما في حديثه عن الماء فيقول فيازيمسكي: “حوفظ على العديد من النوافير العربية في المدينة… هنا نعمة الماء، والماء هبة الله، خاصة في هذه الأرض… حيث يندر المطر وحرارة الجو الشمس تجفف الماء… يُجلب الماء من برك سليمان إلى القدس… لقد هلكت جميع كنوز سليمان ومعها كل الثروة والآثار القديمة كلها… ولكن مياه سليمان ما زالت تروي عطش نسله”.

وهكذا ينسج فيازيمسكي صورة فلسطين، يجمع أجزاؤها بعضها إلى بعض حتى تغدو “فلسطين سفراً مقدساً يحفظ كلمة الله”، في هذا السفر: العالم الخارجي، العالم الخفي، كل ما كان، كل ما هو موجود… كل الشعر الرائع للبشارة المباركة”.

الرحلة إلى فلسطين بالنسبة إلى فيازيمسكي هي رحلة إلى مكان ينتظر فيه أجوبة عن الأسئلة “الأبدية”. والباقي من الرحلة ذكرى.

ويقول في قصيدته “كنز واحد”: “هذا الكنز كله هو ذكرى واحدة/ لكن حياتي، حياة الهموم الصغيرة/ ستعطيها هذه الذكر المعنى والعطر/ الذي سيعيش من بعدي”.

المصدر: الميادين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى