• إن سمح بايدن لأوكرانيا بقصف عمق الأراضي الروسية، فهذا يعني أنه يضع جميع دول الناتو في دائرة الخطر القاتل
مفارقة التسميات عن الواقع
التسميات التي لا تمثل الواقع تنعكس عادة على مروجيها وبالا مضاعفا، ويبدون في موضع سخرية وتندّر، فقد ابتدأ الرئيس الأوكراني مخططه الذي أطلق عليه تسمية ” مخطط النصر” بهجومه على مقاطعة كورسك للرد على سيطرة القوات الروسية على 20% من الأراضي الأوكرانية باعتبارها أراض روسية تاريخية، وكانت نتيجة الهجوم أنه عمليا سيطر مؤقتا لا على 20% أو 5% ولا حتى 1% نتيجة اتساع رقعة أراضي روسيا الاتحادية بل على (0.00585637818) من الأراضي الروسية أي لو اختصرنا الرقم بكلمات بسيطة سيكون خمسة من عشرة آلاف بالمئة! هذا من جانب، من جانب آخر كان هدف هذه المغامرة إجبار روسيا على سحب قسم من قواتها الزاحفة شرقي أوكرانيا لاستكمال تحرير دونباس، فكانت النتيجة أن القوات الأوكرانية نفسها شتت إمكانياتها، وأضعفت جبهاتها شرقي أوكرانيا ما يفسر تسارع تحرير القوات الروسية لبلدات وقرى جديدة كل بضعة أيام وبوتائر متصاعدة، كما وقعت القوات الأوكرانية في مساحة الجيب الأرضي الصغير في فخ معاكس حيث يتم اصطياد العسكريين الأوكرانيين وأسلحتهم وآلياتهم أيضا بشكل يومي..
توسيع مخطط النصر المتوّج بالهزيمة
أدركت القيادة الأوكرانية والرعاة الذين ورطوها بشن الهجوم على كورسك مدى خطورة هذا الوضع، ومن هنا بات لا بد من اتخاذ خطوات نوعية علها تنقذ ولو قليلا هذا الوضع الرهيب، ومن هنا أيضا بات زيلينسكي متعلقا بأوهام جديدة، وهي أن يحقق هذا النصر الموهوم عبر قصف عمق الأراضي الروسية، وبأسلحة غربية بعيدة المدى، طبعا هناك قيادات غربية متحمسة لمثل هذا الاتجاه، ولكنها حتى الآن ما تزال متوجسة من ردة فعل موسكو على خطوة كهذه يمكن أن تشكل انعطافا حادا لا في أرض المعركة بل في دفع التوتر بين روسيا والغرب إلى مداه الأقصى، ولهذا تبدو متريثة حتى الآن، و قد بدأ الرئيس الأوكراني زيلينسكي في محاولة لتغيير هذا الواقع بحزم حقائبه في رحلة جديدة إلى واشنطن قد تجري خلال أسابيع قليلة، وهدفها الأول إقناع الرئيس بايدن بضرورة إعطائه الضوء الأخضر في استخدام صواريخ أتاكمز لضرب العمق الروسي، وعدم احتجاجه على استخدام صواريخ غربية أخرى ليست من صنع أمريكي لهذا الغرض، ذكرت هذا الخبر صحيفة “بيلد” الألمانية، وتشير وسائل إعلام غربية أخرى إلى أن سلطات كييف سلمت واشنطن ولندن قائمة ببنك الأهداف في روسيا التي ستكون عرضة للقصف بالصواريخ الغربية بعيدة المدى، وتشمل قواعد جوية ومراكز لوجستية ومراكز قيادة.
تحت إشارة استفهام
يبقى موضوع السماح لأوكرانيا إذن بقصف عمق الأراضي الروسية تحت إشارة استفهام، ولكن من ما ينشأ توجس الغرب والإدارة الأمريكية بهذا الصدد؟
لقد أوضح الرئيس الروسي بشكل واضح تماما أن مثل هذه الخطوة ستعني المشاركة الفعلية في النزاع الأوكراني بمعنى اقتراب المواجهة المباشرة، ذاك أن القوات الأوكرانية لا تملك الوسائل التقنية لتحديد مسار الصواريخ نحو أهدافها المفترضة، وهذا الأمر يحتاج إلى معطيات من الأقمار الصناعية، أي بتدخل مباشر من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى التي تملك أقمارا صناعية قادرة على إعطاء مثل هذه الإحداثيات، وإن كان بعض ضباط وخبراء الناتو يعملون مع القوات الأوكرانية ويساعدونها في عملياتها العسكرية فإن ذلك يتم تحت غطاء تطوع المرتزقة، وأن الدول التي ينتمي لها هؤلاء العسكريون ليست منخرطة في الحرب، أما استخدام معطيات الأقمار الصناعية، فهذا لا يتم عبر المرتزقة بل عبر الأخصائيين الأمريكيين والغربيين. الواضح حتى الآن على أقل تقدير استنادا لخبر استعداد زيلينسكي للسفر إلى واشنطن عله يحصل على موافقة بايدن باستخدام الصواريخ الغربية لقصف عمق الأراضي الروسية أن وزير الخارجية الأمريكية بلينكن لم يسمح لأوكرانيا بقصف عمق الأراضي الروسية خلافا لما ذكرته بعض مصادر الأنباء، كما أن المستشار الألماني شولتس أصر على موقفه بعدم السماح بقصف عمق الأراضي الروسية، وهو متمسك بموقفه هذا حتى لو تبنت دول أخرى موقفا مغايرا. كما نبه ديفيد كيرتين زعيم حزب “التراث” البريطاني من أن تحذير الرئيس الروسي جدي للغاية، وأن السماح للقوات الأوكرانية بقصف العمق الروسي بصواريخ ستورم شادو البريطانية هو تصعيد جنوني يعرض للخطر أمن الغرب الجماعي كله.
الاحتمالات ما زالت غائمة
من الواضح أن فرنسا وبريطانيا متحمستان للسماح لأوكرانيا بضرب الأهداف في عمق الأراضي الروسية في حين لا تزال ألمانيا والولايات المتحدة تعارضان الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع موسكو، لذا هناك احتمال ضعيف بأن يسمح بايدن بمثل هذا الاحتمال لدى زيارة زيلينكي القادمة، وإن حدث ذلك سيوشيه بعبارات وظروف تخفف من مسؤولية واشنطن، ويرجح أن تسمح لندن باستخدام صواريخ ستورم شادو البريطانية، وذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن الحكومة البريطانية قدمت طلبا رسميا بهذا الشأن لكل من واشنطن وباريس الصيف الفائت، وسبق أن سمحت بريطانيا لأوكرانيا بقصف شبه جزيرة القرم بهذه الصواريخ، ويبدو والحال كذلك أن هناك مبالغة في تصور وجود فيتو أمريكي على استخدام الصواريخ البريطانية في قصف الأراضي الروسية.
منطق محاولة الاقناع التي سيجربها زيلينسكي في واشنطن مفهومة مسبقا، وهي الانطلاق من أن روسيا سبق أن هددت قبل منح أوكرانيا دبابات متطورة قتالية بأنها سترد، وحذرت قبل منح أوكرانيا صواريخ بمدى 300 كم من العواقب، وكذلك هددت بشأن حصول أوكرانيا على طائرات اف 16، ولكنها لم تفعل شيئا ولم تنشأ الحرب المباشرة مع الغرب، ولهذا يمكن أن تُتخذ الخطوة الجديدة أيضا وأن روسيا لن تفعل شيئا، وللرد على مثل هذه التصورات نقول: أن تحذيرات وتهديدات موسكو بشأن تزويد أوكرانيا بالسلاح ارتبط بأنه عمل متهور يدفع إلى تصعيد التوتر، وأن هذه الأسلحة ستكون أهدافا مشروعة للقوات الروسية، وهذا ما حدث فعلا أما الآن فاستخدام الأقمار الصناعية يعني الدخول العلني تقريبا في الحرب ضد روسيا، ومع ذلك أشارت نائبة المتحدثة باسم البنتاغون صابرينا سينغ إلى أن عدم رد روسيا حتى الآن لا يعني أنها لا تسطيع الرد، بل هي قادرة وقد تفعل ذلك في المستقبل.
بقي أن أشير إلى أن التوجس الأمريكي لا ينشأ من الخشية على الأضرار وحتى الخسائر البشرية التي يمكن أن يسببها هذا القصف لروسيا، بل لأن التحول إلى مواجهة مباشرة مع روسيا يعني أن واشنطن بسماحها قصف عمق الأراضي الروسية جعلت جميع دول الناتو في دائرة الخطر القاتل، بل والفناء المحتم نتيجة قرار متسرع أحمق.