في ساعات الليل الأولى من يوم السابع عشر من تشرين أول/أكتوبر قبل عام بالتمام والكمال، وتحت جنح الظلام كحال المجرمين واللصوص وزيادة، شنت الطائرات الأمريكية والتي تحمل العلم الإسرائيلي غارات وحشية غير مسبوقة في تاريخ الحروب، ملقية حمم صواريخها الأمريكية الأكثر فتكا وتدميراً، ومستهدفة المستشفى الأهلي العربي “المعمداني” في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، حيث يلوذ آلاف النازحين ومئات الجرحى والمرضى، محوّلة ساحاته إلى برك من الدماء والأشلاء المتناثرة والمحترقة جلّهم من النساء والأطفال والمسنّين، في منظر مريع لم يشهد العالم له مثيلاً ما دفع معظم دوله إلى عدم القدرة على تجاهل هكذا حدث جلل، ولكن كلّ على طريقته الخاصة. وهو ما جعل من هذه المجزرة البشعة التي أودت بحياة أكثر من 500 شهيد وألف جريح “أمّ الفضائح وكاشفة الحقائق” بكل معنى الكلمة.
فبركات “الكيان” المجرم
كالعادة، استغلّ “الكيان” النازي مقطع فيديو صُوّر قُبيل لحظات من المجزرة، يُظهر صواريخ الفصائل الفلسطينية وهي تنطلق من القطاع، ثم وصلت الغلاف الذي تُسيطر عليه عصابات الاحتلال قبل أن يُسقطها أحد صواريخ القبة الحديدية، وحاولَت وسائل إعلام تتبعُ لإسرائيل بشكل مباشر أو داعمة لها بشكل كلّي، القول إنّ هذا المقطع دليلٌ على فشل الصاروخ في الخروج من غزة وسقوطه على المستشفى. تعرّضت هذه الرواية هي الأخرى للدحض خاصة بعدما انتشر مقطع فيديو من كاميرا مراقبة في مستوطنة “نتيف هعسراه” يُظهر كيف مرّت الرشقة الصاروخية الفلسطينية بنجاح، أما الانفجار الذي تلاها فقد كان ناجمًا عن اعتراضِ القبّة الحديدية لتلك الرشقة. وجديرٌ بالذكرِ هنا أنه ومباشرة بعد المجزرة، حذف مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، تغريدة على منصة إكس على شكل اقتباسٍ من خطاب نتنياهو أمام الكنيست الإسرائيلي يوم 16 أكتوبر وفيها وصفَ صراع إسرائيل مع حماس على أنه “صراعٌ بين أطفال النور وأطفال الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب”. فيما شككت صحيفة نيويورك تايمز في الرواية الإسرائيلية مؤكدة أن النظرة الفاحصة لمقطع الفيديو الصاروخي الذي استشهدت به إسرائيل لا يثبت روايتهم. وبناءً على ما جاء في موقع (إذاعة صوت ألمانيا) بتاريخ 31 أكتوبر 2023 “أن الصاروخ الذي أصاب المستشفى لم يأت من داخل جنوب غرب غزة كما يدعي الجانب الإسرائيلي”.
مواقف بايدن ودول الغرب الاستعماري
الولايات المتحدة: وصل الرئيس الأمريكي جو بايدن مدينة تل أبيب في صبيحة يوم 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وذلك بعد ساعات قليلة من مجزرة المعمداني في زيارة مرتبة منذ عدّة أيام، لتقديم ما سمَّاها “المساعدة والدعم للشعب الإسرائيلي”. عقدَ الرئيس الأمريكي جلسة صحفيّة مع نتنياهو، وفيها قالَ إنّ حماس ارتكبت ما سمَّاها “فظائع” في إسرائيل، ثم أيَّد وبشكل صريح الرواية الإسرائيلية بخصوص مجزرة مستشفى المعمداني رغم صدور تقارير عربيّة وفلسطينيّة من موقع الحدث تؤكّد وقوفِ إسرائيل خلف المذبحة، وتقارير غربيّة تنفي المسؤولية الفلسطينية. عبَّر بايدن عن حزنه وغضبه بشأن ما سمَّاه “الانفجار” في المستشفى، وأضاف: “يبدو أن الجانب الآخر وراء ذلك وليس أنتم”. وأشارَ بايدن إلى ما أسماها من جديدٍ مصادر استخباراتية في البنتاغون، والتي زعمت أن الانفجار نجم عن خطأ في إطلاق صاروخ من حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية. كذلك صرحت أدريان واتسون المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، أنه “بينما نواصل جمع المعلومات، فإن تقييمنا الحالي بناءً على تحليل الصور الجوية والاعتراضات والمعلومات مفتوحة المصدر، هو أن إسرائيل ليست مسؤولة عن الانفجار”، واتفق معها مسؤولون آخرون في المخابرات الأمريكية، رغم اعترافهم بأنّ التحليل ما زال أوليّاً وأن التحقيقات مستمرّة.
المملكة المتحدة: ذكر رئيس الوزراء حينها ريشي سوناك، في 23 أكتوبر، أمام البرلمان إن “الحكومة البريطانية ترى أن الانفجار ناجم على الأرجح عن صاروخ أو جزء منه أطلق من داخل غزة باتجاه إسرائيل”.
فرنسا: صرحت مديرية المخابرات العسكرية الفرنسية في 20 أكتوبر 2023 “لا يوجد ما يسمح لنا بالقول إنها ضربة إسرائيلية، لكن (السيناريو) الأرجح هو أنه صاروخ فلسطيني تعرض لأمر ما عند إطلاقه”. فيما أعلنت يوم الخميس الموافق 26 أكتوبر 2023 صحيفة لوموند الفرنسية التشكيك في الرواية الإسرائيلية بشأن القصف الذي استهدف المستشفى الأهلي “المعمداني” في غزة. حيث تمكن فريق التحقيق التابع للصحيفة الفرنسية من تأكيد أن المقذوف الذي ظهر في بث قناة الجزيرة في الواقع أُطْلِقَ من إسرائيل وليس صاروخًا فلسطينيًا. كما أن هذا المقذوف أطلق من منطقة توجد فيها بطارية القبة الحديدية للاحتلال الإسرائيلي على بعد أقل من كيلومترين شرق مستوطنة ناحل عوز.
إيطاليا: ذكر وزير الخارجية أنطونيو تاياني في 24 أكتوبر 2023: “يتعين علينا تجنب التأثير السلبي للحملات الدعائية لأن هذا الصاروخ الذي قيل إنه تسبب في مقتل 500 شخص لم يخلف سوى 50 (قتيلًا) في الواقع… ولم تكن إسرائيل هي من أطلقته”.
الحداد الوطني: أعلنت الحكومة اللبنانية حدادًا وطنيًا في اليوم التالي للمجزرة حزنًا على “الشهداء والضحايا الذين يسقطون جراء المجازر والاعتداءات التي ترتكبها إسرائيل”. كما أعلن العراق بدوره “حدادًا على شهداء مجزرة مستشفى المعمداني”. وأعلن الرئيس إبراهيم رئيسي هو الآخر يوم حدادٍ عامٍ في كامل إيران. وانضمَّت الأردن لقائمة الدول التي أعلنت الحداد فأعلنت بدورها الحداد 3 أيام على ضحايا المجزرة الإسرائيلية في مستشفى المعمداني بمدينة غزة، ومثلها فعلت مصر حيث أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي حالة الحداد العام في جميع أنحاء الجمهورية لمدة ثلاثة أيام “حدادًا على أرواح الضحايا الأبرياء في غزة”، فسوريا التي أعلنت هي الأخرى حدادًا وطنيًا لمدة 3 أيام.
إلغاء القمة الرباعية: كان من المزمع عقدُ قمّة رباعية في العاصمة الأردنية عمان في اليوم الموالي للمجزرة (18 أكتوبر 2023) تجمعُ بين العاهل عبد الله بن الحسين ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إضافةً للرئيس الأمريكي جو بايدن لـ “بحث التطورات الحاصلة في قطاع غزة”، لكنّ قرر الأردن إلغائها. شرحَ وزير الخارجية الأردني في وقتٍ لاحقٍ موقف دولته بالقولِ إنّ “القمة ستُعقد حين يكون قرارها وقف الحرب ووقف هذه المجازر”.
إجماع دولي على الشجب والإدانة: دفع هول الفاجعة الكثير من الدول على التعبير عن شجبها وإدانتها لهذه المجزرة البشعة، لعل أهمها على سبيل المثال لا الحصر: دول ليست لها علاقات رسمية مع “الكيان” المجرم: كالجزائر، الكويت، قطر، العراق، سوريا، السعودية، وليبيا. ودول لها علاقات رسمية معه: مصر، المغرب، الإمارات العربية المتحدة، الإردن. ودول أخرى: افغانستان، بنغلاديش، باكستان، إيران، تركيا، ماليزيا، اندونيسيا، كوريا الشمالية، وكندا.
خلفية حول المستشفى المستهدف:
يعمل المستشفى مُنذ عام 1882، وقد أسسته جمعية الكنيسة الإرسالية التابعة لكنيسة إنجلترا، وأداره لاحقًا المذهب المعمداني الأمريكي الجنوبي كبعثة طبية بين عامي 1954 و1982. عادَ المستشفى تحتَ إدارة الكنيسة الأنجليكانية في الثمانينيات. استمرَّت الغارات الإسرائيلية على مناطق قريبة جدًا من المستشفى، ما دفعَ آلاف النازحين للفرار منه هو الآخر، فالمشفى كان يؤوي حوالي 6,000 نازح ثم بعد وصول الضربات الإسرائيلية للمناطق القريبة منه فرَّ الكثير وظلَّ حوالي 1000 من النازحين يحتمون في الفناء. أمرت إسرائيل قبل ساعات قليلة من المجزرة بإخلاء 21 مستشفى في غزة، بما في ذلك المستشفى المعمداني، لكن موظفيه وسكان المنطقة رفضوا الاستجابة إلى الدعوى الإسرائيلية التي تهدف لتهجيرهم من مدنهم قسراً. ويعتبرBottom of Formأحد المستشفيات العاملة في مدينة غزة. يقع مقره في حي الزيتون جنوب المدينة وتُديره الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس ويُعد من أقدم مستشفيات المدينة منذ تأسيسه عام 1882 بواسطة جمعية رسالة الكنيسة التابعة لكنيسة إنجلترا. يُقدم المستشفى الذي يضم حوالي 80 سريرًا خدماته من خلال الأقسام الطبية التالية: الطوارئ، والجراحة العامة وجراحة العظام، والعمليات، والولادة، والحروق، والعيادات الخارجية، والتصوير الإشعاعي للثدي، والصيدلية، والمختبر، والعلاج الطبيعي والأشعة. يتألف المستشفى من مبنيين، الأول تراثي قديم، والأخير شُيد عام 2018 لتقديم خدمات تشخيصية مساندة. خلال الحرب العالمية الأولى تعرض المستشفى للتدمير والسرقة والنهب. لاحقًا أُعيد بناؤه وتسميته إلى المستشفى الأهلي العربي عام 1919. لاحقًا أدار المستشفى بين عامي 1954 و1982 البعثة الطبية التابعة لكنيسة المذهب المعمداني الأمريكي الجنوبي. وعام 1976، أوقفت الأونروا المساعدات عن المستشفى ما أدى إلى تراجع عمله وتقلص عدد موظفيه. ومع نهاية عقد 1970 وبداية 1980، تولى إدارة المستشفى الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس. تمول الجمعية المتحدة الفلسطينية بالولايات المتحدة المستشفى، حيث قدم خدماته واستقبل المرضى والإصابات ابتداءً من الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 ولا تزال.
الخلاصات:
أثبتت هذه المجزرة الهمجية المقصودة جملة من الاستخلاصات التي لم يستوعبها الكثيرون بعد، ولعل أهمها بعد ما سبق من عرض محايد يكمن في الآتي:
1 ـ أن “الكيان” النازي لا يعترف أو يمكن له أن يلتزم بميثاق الأمم المتحدة وكافة مؤسساتها المتخصصة ولا تعنيه القرارات والقونين الدولية والإنسانية بشيء.
2 ـ أن هذا الكيان لا حدود ولا ضوابط لأفعاله الإجرامية ولن ينصاع حتى لداعميه ولن يقبل حتى مجرّد الانتقاد له حيث يعتبر نفسه مقدّساً وفوق كل القونين الوضعية وحتى السماوية.
3 ـ أنه ماض في حربه المقدّسة لتحقيق هدفه الحقيقي الذي أفصح عنه زعيمه النازي البولندي “بنزيون ميليكوفسكي” بتغيير خارطة الشرق الاوسط وفق ما يريده وتتوافق معه واشنطن وعواصم الغرب الاستعماري.
4 ـ أن مقولة “الأرض مقابل السلام” لم تعد قائمة حتى لمجرّد النقاش.
5 ـ أن مفهوم “السلام” غير واردة في قاموسه وما هو مقبول هو “الاستسلام” والاستسلام فقط مقابل مكرمة “الأمن” وبحسب المزاج.
6 ـ أن واشنطن وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا هي ومن يتبعها شريك فعلي وشمولي مع صنيعتهم في كل ما يفعله وهم ستر وغطاء له، وما يخالف ذلك هو مجرد تصريحات استهلاكية وذر للرماد في العيون.
7 ـ أن قبول واشنطن للعب دور الوسيط وهي المايسترو لهذه الحرب الشعواء ما هو إلا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ويعتبر مشاركة في كل الجرائم والمجازر المقترفة، ومنح الاحتلال المزيد والمزيد من الوقت لمواصلة عدوانه الهمجي.
8 ـ أن المواقف العربية والإسلامية الهزيلة والمتخاذلة تمنح الاحتلال مزيداً من الإصرار على العدوان وتفتح شهيته للتوسع الذي لم يخفيه نحو دول عربية وإسلامية خارج حدود فلسطين التاريخية.
9 ـ أن العصابة المجرمة التي تقود هذا “الكيان” لا تكترث لكل الاتفاقيات التي أبرمتها سواء باسم “السلام” أو باسم “التطبيع” أو ما يسمى “الاتفاقيات الإبراهيمية” وما يعنيها هو “الامن” الخاص بها و “التطويع” و”فرض القوة” المطلقة على الشرق الأوسط برمته وربّما أبعد من ذلك لو استطاعت.
10 ـ ان اللغة الوحيدة التي يمكن لها أن تردع جموح وطموح هذا “الكيان” النازي هي “القوة” فقط لاغير.
وقد أعذر مَن أنذر.