لكيلا ننسى أن إسرائيل قامت بتصفية العلماء والنوابغ العرب -عدنان البرش نموذجا-
بقلم د. أيمن أبو الشعر
• بدأت إسرائيل سلسلة اغتيالاتها بالعالم “مشرفة” الذي اعتبر انشتاين اغتياله خسارة كبيرة كأحد أهم العلماء في مجال الفيزياء
• حتى العالم الذري يحيى المشد الذي استدعاه الرئيس صدام حسين وعمل في تطوير البرنامج النووي العراقي اغتيل في باريز
• أمهر وأشهر جراح عظمية فلسطيني في العالم يقتل تحت التعذيب في السجون الإسرائيلية، ولم تحرك الولايات المتحدة ساكنا
لا توجد دولة في العالم تمارس الإرهاب بجميع أنواعه كإسرائيل، وهي صاحبة الرقم القياسي في الاغتيالات في جميع أنحاء العالم لكل من يقاومها أو يعارض سياستها العنصرية، الأمر الذي لم ينج منه حتى أحد رؤساء حكوماتها إسحق رابين عام 1995.
صحيفة سوابق تحتاج إلى مجلدات
دأبت إسرائيل منذ أن تم زرعها في خاصرة الوطن العربي على تصفية الشخصيات العربية المؤثرة، وطالت هذه الاغتيالات المئات من المسؤولين الفلسطينيين بمستويات قيادية مختلفة بما في ذلك بعمليات هجوم مباشر، كما حدث إبان اغتيال خليل الوزير “أبو جهاد” الرجل الثاني عمليا بعد ياسر عرفات، حيث هاجمته فرقة خاصة في تونس وقتلته عام 1988.
وترجح معظم الآراء وبعض المعطيات أن ياسر عرفات نفسه قد اغتيل بسم البولونيوم في تشرين الثاني عام 2004، سبقه الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس الذي قُتل بغارة مدبرة، وبتوقيت محدد في 22 آذار وهو عائد مع مرافقيه على الكرسي المتحرك من صلاة الفجر بقصفه بعدة صواريخ. وتم اغتيال الرنتيسي أيضا في نيسان من نفس العام، كما حاولت عام 1997 اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك بتوجيه من نتن ياهو نفسه بالسم، لكن العملية لم تكتمل ونتيجة انكشافها قُدِّم لمشعل المصل المضاد الذي أنقذ حياته.
وكذلك عمدت إسرائيل إلى استهداف العلماء والنوابغ العرب قتلا بشكل مباشر، أو اغتيالا يُسجل عادة باسم مجهول، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، نتناول بعضها فقط كأمثلة كونها تمس بالفعل النخبة المثقفة المميزة العلمية والإبداعية، كالعالم علي مصطفى مشرفة الذي كان يلقب بأنشتاين العرب كونه ساعد أنشتاين في الوصول إلى النظرية النسبية، وقد قتل عام 1950 بالسم وسجلت القضية ضد مجهول، وكتب عن أنشتاين متألما لفقده يقول: أنا لا أصدق أن مشرفة قد مات، يا لها من خسارة فادحة، فنحن بحاجة إلى مواهبه، وأكد أنشتاين أنه كان يتابع أبحاثه في الطاقة الذرية، واعتبره واحدا من أعظم العلماء في مجال الفيزياء.
ومن أشهر عمليات الاغتيال تجاه النوابغ والمبدعين الفلسطينيين والعرب اغتيال الكاتب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني بعبوة ناسفة زرعت تحت سيارته عام 1972، والمفكر العراقي الدكتور باسل الكبيسي أستاذ القانون في الجامعة الأمريكية في بيروت حيث اغتيل في باريز بإطلاق النار عليه من قبل عناصر الموساد بمسدس كاتم للصوت عام 1973، والدكتور يحيى المشد العالم المختص بالمفاعلات النووية وكان من أبرز العلماء المصريين، وقد اقترح عليه الزعيم العراقي صدام حسين عام 1975 العمل في المخابر العراقية، ووافق على العمل في العراق، وبعد بضع سنوات اغتيل في باريس بفندق الميرديان عام 1980، وسجلت القضية ضد مجهول، وتم إلقاء الدكتور سعيد سيد بدير العالم المختص بالصواريخ والهندسة التكنولوجية من شرفة منزله في الطابق الثالث عشر في الإسكندرية، أما العالم في مجال الذرة الدكتور نبيل أحمد فليفل فقد عرض عليه لتفوقه المميز العمل برواتب مغرية في أوروبا لكنه أصر على العودة لفلسطين، حيث اختفى فجأة وعثر على جثمانه في منطقة بيت عور في نيسان عام 1984 ، وحادثة اغتيال الدكتورة سلوى حبيب الأستاذة في معهد الدراسات الإفريقية بالغة الإثارة فهي مسالمة ودية لا خصومات لديها مع أحد، لكنها كانت من أنشط الباحثات في فضح التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ولها عشرات الكتب والبحوث في هذا المجال وقد عثر عليها مذبوحة في شقتها، لأنها وفق الرؤية الصهيونية تطاولت على مخططات التمدد الإسرائيلي في إفريقيا، نكتفي بهذا القدر منوهين بأن عمليات الاغتيال التي قامت بها إسرائيل تجاه النوابغ من العلماء والمبدعين العرب أكثر بكثير.
لكيلا ننسى
لو قُتل معتوه إسرائيلي في معركة مع الفلسطينيين، وليس في السجون الفلسطينية، وليس تحت التعذيب، لأقامت الولايات المتحدة الدنيا ولم تقعدها، ولرأت في مقتله جريمة بشعة، وربما اعتبرت هذا المعتوه المفترَض حكيما أو نابغة بما أنه صهيوني، ولكنها لم تصدر حتى بيانا لإدانة هذا الحادث، بل هذا الحدث في مقتل الجراح الفلسطيني الدكتور عدانا البرش تحت التعذيب، والذي يمكن ضمه إلى قائمة النوابغ المبدعين العرب الذين قتلتهم إسرائيل، لكن هذا المبدع قتلته ليس اغتيالا يُسجل ضد مجهول، بل علنا تحت التعذيب، لأنه أعاق مشروعها – القضاء على أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين- بإنقاذه حياة الجرحى والمصابين.
مرَّ على هذه الجريمة الشنعاء أكثر من 20 يوما، وما زال صمت الدول “المتحضرة” هو الطاغي، أما الإعلام الغربي فقد أورد الخبر بحيادية كما يورد أنباء عن أسعار النفط أو البورصة، ولم تول مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان هذه الجريمة الاهتمام الكافي، ولم تطالب الأمم المتحدة حتى بالتحقيق في هذه الجريمة، ولم تصدر البيانات الاستنكارية، ولم تتحرك المحكمة الدولية، وكأن الأمر عادي وعابر تماما، وقد أصدرت حركة حماس بيانا طالبت فيه بمحاسبة تل أبيب على مقتل أسيرين فلسطينيين تحت التعذيب في سجن عوفر أحدهما هو الطبيب الدكتور عدنان البرش، وبمقتل هذا الطبيب الجراح يصل عدد الكوادر الطبية التي قتلت في غزة قرابة 500 بين طبيب وممرض وعامل في مجال التمريض والصحة، فمن هو الدكتور عدنان البرش؟
علَمٌ مبدع في جراحة العظام
الطبيب الجراح الدكتور عدنان البرش في الخمسين من عمره، هو رئيس قسم العظام في مشفى الشفاء في مدينة غزة، ويعتبر أحد أشهر جراحي العظام في العالم عامة، وهو يشارك في العديد من المؤتمرات الدولية حول جراحة العظام، ورغم العروض العديدة الأوروبية والأمريكية والعربية للعمل في مشافي تلك الدول إلا أنه فضَّل البقاء إلى جانب شعبه في غزة، وخاصة في هذه المحنة، وكرس حياته لمعالجة وإجراء العمليات الخطيرة التي تكاثرت نتيجة القصف الإسرائيلي المستمر على غزة فيما سمي بحرب تهشيم العظام، وبات يجري أحيانا أكثر من خمسة وعشرين عملية في اليوم الواحد لإنقاذ أرواح المصابين، وحقق الرقم القياسي عالميا في إجراء 41 عملية ذات يوم.
وكان هذا العمل المتفاني مع تشبث الدكتور عدنان بوطنه، وعدم الرضوخ لمغريات الخارجية وتمسكه بأرضه كافيا ليعتبره الاحتلال الإسرائيلي مجرما ويتم اعتقاله لعدة أشهر، ثم الإعلان عن وفاته في السجن في 19 من أبريل الفائت دون ذكر أية تفاصيل توضح سبب الوفاة، ولكن معظم المعطيات تؤكد أنها نتيجة التعذيب خاصة أن مصلحة السجون امتنعت عن تسليم جثمانه لذويه، ومن الواضح أن صموده استفز الجلادين الإسرائيليين، فعمدوا إلى تعذيبه حتى الموت.
أرقام مرعبة
الجدير بالذكر أن إسرائيل تعتبر كل فلسطيني مجرم يجب اعتقاله أو قتله، وحسب التقارير الأممية اعتقلت إسرائيل لفترات متباينة منذ عام 1967 وحتى عام 2023 أكثر من مليون فلسطيني قسم غير قليل منهم من الأطفال والنساء، وحتى المرضى الذين يموت معظمهم لمنع الدواء عنهم، ومعظم هذه الاعتقالات، ثم الرمي في السجون تجري بدون أية محاكمات بل ودون أية مبررات أو إجراءات قانونية، بل وفق ما يعرف بالاعتقال الإداري، ناهيك عن فرض الحصار، ومنع التجوال والحالات الاستثنائية والطوارئ بين حين وآخر مما جعل فلسطين كلها سجنا كبيرا.
نشير أخيرا إلى أن عدد الذين لاقوا حتفهم داخل السجون الإسرائيلية، وخاصة تحت التعذيب أو الإهمال الطبي أو منع الدواء، هو وفق المعطيات الرسمية 227 فلسطينيا قبل اجتياح غزة، فيما تقدر مصادر أخرى أن العدد أكبر بكثير وخاصة بعد اجتياحها لقطاع غزة.
سيبقى اسم الدكتورعدنان البرش شامخا حيا في قلوب الشرفاء المخلصين من أبناء العروبة، ولا شك أن الأنذال من أية قومية لن يولوا هذا الحدث أي اهتمام، وقد يتابعونه بابتسامة بلهاء وهم يلعبون الورق أو النرد.