لبنان يظفر برئيس عشية صراع الخرائط العالمية: ترامب ـ نتنياهو.. واللعب في الوقت الضائع!
فضل المهلوس
أخيراً نجح لبنان في انتخاب رئيس له بعد عاميْن من شغور كرسي الرئاسة، مُقتنصاً لحظة تاريخية مفصلية يُسارع فيها الكثيرون بتجهيز أوراقهم وحتى خرائطهم عشية استقبال البيت الأبيض لساكنه الجديد يوم العشرين من الشهر الجاري.
شاهراً سيف الاقتصاد والعسكر معاً، ومتوعّداً بتغيير خرائط العالم المفروضة منذ حقبة سايكس ـ بيكو، والمُرسّمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وولادة الأمم المتحدة والقانون الدولي والإنساني بأشكاله المختلفة، والتي لم تعد تروق له، وبدا مستعجلاً بتقديم الرؤية الأمريكية الجديدة على أنقاض التوافق البريطاني ـ الفرنسي القديم، وتوافقات مؤتمر “يالطا”، والأمم المتحدة وكافة القوانين والمواثيق والقرارات الدولية، بل وحق الشعوب بتقرير المصير. وكأن العالم قطعة قماش بيد ترزي هاوٍ يريد تقسيمها على هواه، غير آبه حتى بحلفاء وشركاء واشنطن في كافة حروبها العدوانية من دول الاستعمار الغربي القديم، في محاولة للعب في الوقت الضائع، واعتراض ولادة نظام عالمي جديد تكون فيه الولايات المتحدة أمة بين الأمم وليس فوق الأمم. وهو ما يضع العالم بأسره أمام أسئلة مصيرية، وميادين صراع جديدة بتحالفات جديدة بعيدة عن التوقّع وخارجة عن المألوف.
ترامب التاجر المسكون بفن استعراضات “هوليود” المحترقة، والمهووس ذو الباع الطويل بحلبات المصارعة الأمريكية الحرّة غير الخاضعة لأية قوانين أو ضوابط.. استعجل مبكّراً كعادته في كشف بعض أوراقه، وحتى قبل أن يظفر بورقة الحكم فعليّاً، فاستهدف كندا نقطة توافق الكومنولث البريطاني والفرانكفونية الفرنسية ربما الوحيدة، وجزيرة جرينلاند الدنماركية الأوروبية، وبنما الأمريكية الجنوبية.. وكذلك القارة الأوروبية العجوز برفع الرسوم الجمركية من جهة، وبزيادة فاتورة الحماية الأمريكية لها كقائدة لحلف الناتو من جهة أخرى.. أما الصين، وهي الهدف الأسمى لترامب، باعتبارها العملاق الاقتصادي الصاعد، والمنافس الأول لعرش الولايات المتحدة، حيث اتجاه ضربته الرئيسية ـ كما يعتقد ـ فقد بادر إلى إعلان الحرب الاقتصادية المفتوحة من جهة، ومحاولة فصل تحالفها الاستراتيجي مع روسيا، متوهّماً بإمكانية أقتناع روسيا بتهريجه الصبياني من خلال مقايضة تشريع عودة الأقاليم الأربعة لها مقابل تمريرها لخرائطه الجديدة للعالم والانفصال عن الصين من جهة أخرى…
وفي الشرق الأوسط، مكسر عصا صعود وهبوط الإمبراطوريات عبر التاريخ، فإن ترامب الذي ورث عن أبيه “فريد” الذي أخفى ألمانيته مدّعياً أصوله السويسرية، والمتهم بالتهرب الضريبي، والانتماء للحركة “الصهيونية التصحيحية” التي أسسها اليهودي الروسي الإرهابي “جابوتنسكي” عام 1925 الأب الروحي للمجرم النازي نتنياهو.. بدأ بذرف دموع التماسيح على صغر مساحة “الكيان” وفقدانه العمق الاستراتيجي الذي يحتاجه بغية “الأمن” و “الدفاع عن النفس”.. وهو ما اقتنصه نتنياهو وعصابته الإجرامية التي تجسّد زواج المتعة ما بين “الصهيونية التصحيحية” و “الصهيونية الدينية”، فبادرت إلى طرح خرائطها التاريخية المسبقة الصنع لتغيير الشرق الأوسط، وفرض حلم “اسرائيل الكبرى” من “الفرات إلى النيل” وربما أبعد من ذلك إن أمكن. وذلك بعد أن أنتزعت من روسيا وبريطانيا وفرنسا ونظام الاستعمار الغربي القديم والأمم المتحدة ما تريد وترغب بالظفر به…
وعودة إلى لبنان، والذي يمثّل بيضة القبّان في تقسيمات سايكس ـ بيكو، والتوافق البريطاني الفرنسي، وبؤرة الاستقرار والانفجار في المنطقة برمّتها، جاء سيناريو انتخاب الرئيس الرابع عشر قائد الجيش جوزيف عون. وهو ما يُعيد إلى الأذهان لويس الرابع عشر المعروف باسم “لويس العظيم” أو “ملك الشمس” ـ 1643 لغاية 1715 ـ والذي حكم 72 سنة و110 أيام، مسجّلاً أطول فترة حكم ملكي في التاريخ، والذي اتّسم حكمه من جملة ما اتصف به، أنه كان مرحلة تحوّل تاريخي عالمي ما بين النظام الإقطاعي البائد، وبزوغ الثورة الصناعية المتواصلة بشتى مراحلها حتى يومنا هذا.. الأمر الذي يجعل من انتخاب الرئيس اللبناني الجديد، بداية ولوج مرحلة جديدة، وأول ساحة اشتباك ما بين خرائط سايكس ـ بيكو القديمة وخرائط واشنطن ـ تل أبيب الجديدة. ويبدو أن ما ظهر من تحالف جديد فرنسي ـ سعودي بتفاهماته مع المقاومة اللبنانية قد حقق انتصاراً ملحوظاً في هذه الجولة الأولى من الاشتباك فاجأت كل من واشنطن وتل ابيب معاً، وهما اللتان تحدّثتا مبكّراً عن اليوم التالي للبنان “ما بعد حزب الله”. وهو ما انعكس في خطاب العهد للرئيس الجديد، وتركيزه على “لبنان الكبير”، والوحدة الوطنية لكافة مكوّناته، ومواجهة عدوان “الكيان”، وصون سيادة واستقلال لبنان.. وذلك في رسائل مباشرة لمخططات الفيدرالية السورية الكبرى التي تبتلع الوطن اللبناني والأردن وربما أجزاء من العراق والسعودية، بعد إعادة فك وتركيب تقسيمات بريطانيا وفرنسا وفق رغبات تل أبيب المعلنة بمنتهى الصلف والغطرسة، كجزء من إعادة رسم الخرائط العالمية ما بعد 1945 وفق طموحات إمبراطورية “مورغان” الجديدة، والتي كشف ترامب عن جزء هام منها..
صحيح أن تقسيمات سايكس ـ بيكو كانت جائرة وظالمة إلى حد بعيد، وأدت إلى مأساة الشعب الفلسطيني المتواصلة، ومزّقت نسيج المنطقة حتى المجتمعي منه، وفرضت حدود مصطنعة وقاسية طيلة عقود طويلة، ضمن خلالها الغرب الاستعماري الهيمنة، ونهب الثروات، والسوق الاستهلاكية، والحيلولة دون وحدة شعوبها ونهضتها وتطوّرها.. لكن الصحيح أن ما هو مطروح من خرائط جديدة للعالم والمنطقة سيحوّل العالم بأسرة إلى شريعة غاب بلا قانون دولي وإنساني وبلا قِيَم أو أخلاق أو حتى مشاعر إنسانية فطرية، وسيلغي منظومة الأمم المتحدة التي ضبطت العلاقات الدولية من أساسها، وسينزع من الشعوب حقها في تقرير المصير والسيادة والاستقلال، وسيُشيع الفوضى “غير الخلّاقة” في العالم أجمع.. وهو ما سيضع واشنطن وتل أبيب في مواجهة مفتوحة مع كافة دول وشعوب العالم، وسيفرض عليها إعادة النظر في مواقفها السابقة وتحالفاتها وتوجّهاتها المستقبلية، وما جرى في لبنان ما هو سوى أول قطرة من طوفان جارف يتهدد العالم والمنطقة. لكن ما لم يدركه ترامب ونتنياهو أن العالم قد تغيّر، وأن اللعب فيه بات على المكشوف، وأن أمريكا لم تعد أمريكا المُتخيّلة و”الكيان” لم يبق على حاله، وأن حرب أوكرانيا وفلسطين قد فرضت معادلات وتحالفات وصعود قوى عالمية وإقليمية جديدة، وسوف يدركون سريعاً أنهم يلعبون في الزمن الضائع، الذي لم يعد زمنهم الذي يفرضون فيه إملاءاتهم، ويفرضون فيه خرافاتهم، فالجميع بما فيهم شعوبهم قد وعى حقيقتهم بلا مساحيق تجميل، وكما يقول المثل الفلسطيني المأثور: “ماذا تصنع الماشطة في الوجه الشِّنِع”.