قراءة في مقترحات بوتين للسلام في أوكرانيا ومنظومة الأمن الجديدة في أوروبا ( الجزء الثاني)
بقلم د. أيمن أبو الشعر
• بوتين يعطي فرصة لأوكرانيا كي تصون دماء شبابها، ويؤكد أنه إن رفضت أوكرانيا والغرب مقترحاته فالمفاوضات لاحقا ستكون بشروط أخرى
بديلا عن المقدمة
لا بد من التنويه بأن فقرة “الإرهاص” في الجزء الأول تصلح مقدمة أيضا للجزء الثاني، مع الإشارة إلى أن الوضع الميداني في أوكرانيا وتطوراتهما كما سنلاحظ كان منصة قوية انطلق منها الرئيس بوتن لتحديد بنود مقترحاته السلمية الجديدة، وهي عمليا لا تختلف كثيرا عن مجمل أهداف العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا. مع الإشارة إلى أن كل هذه البنود كانت مفاوضات استانبول عام 2022 قد توصلت إليها، وكان يمكن أن تحل الأمور سلميا دون مقتل وإصابة ما يقرب المليون أوكراني ناهيك عن الدمار الهائل والتبعات الاقتصادية والإنسانية على الشعب الأوكراني بالدرجة الرئيسية، حيث بات القسم الأكبر منه لاجئا في روسيا وأوروبا، والقسم الآخر يفنى يوما بعد يوم، ولابد من الإشارة إلى أن هذه المقترحات تأتي بعد يوم واحد من توقيع الرئيس بايدن والرئيس زيلينسكي على اتفاق أمني لمدة 10 سنوات تقدم فيها الولايات المتحدة الدعم الأمني لأوكرانيا، وتلتزم بموجبه بتدريب القوات المسلحة الأوكرانية وزيادة التعاون في مجال انتاج الأسلحة والمعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتعتبره موسكو عديم الفائدة كونه وقع مع رئيس انتهت ولايته.
ملخص المقترحات الروسية
نوجز مقترحات الرئيس بوتين لوقف القتال وتحقيق السلام في أوكرانيا في البنود الرئيسية التالية:
1- سحب القوات الأوكرانية من أراضي المناطق الجديدة في روسيا، والاعتراف بالمناطق الخمس كجزء لا يتجزأ من روسيا
2- تخلي كييف عن نيتها الانضمام إلى الناتو
3- أن تخضع أوكرانيا لنزع السلاح وأن تكون خالية من السلاح النووي
4- أن يتم اجتثاث النازية
5- أن يتم ضمان حقوق وحريات المواطنين الروس في أوكرانيا
البند الأول
ينطلق بوتين في هذا البند من أمرين رئيسيين: الأول تأكيده أن العملية الروسية ستستمر حتى تحرير المناطق الجديدة الأربع بالكامل وفق حدودها الإدارية قبل انضمامها، أو بالأحرى ضمها إلى أوكرانيا وهي “دونيتسك، ولوغانسك، وخيرسون، وزاباروجيه، وشبه جزيرة القرم، والأمر الآخر هو أن الواقع الميداني قاس جدا على أوكرانيا التي تفقد يوميا في المعارك قرابة ألف عسكري وأحيانا أكثر من ذلك، وبالتالي يتضمن المقترح عمليا صون أرواح الجنود الأوكرانيين خاصة أنه سبق أن أعلن أن الخسائر الأوكرانية البشرية أضعاف الخسائر الروسية، بمعنى إعطاء أوكرانيا فرصة لصون دماء أبنائها.
البند الثاني
مسألة تخلي كييف عن الانضمام إلى الناتو شرط جوهري جدا لأن روسيا بعد حل حلف وارسو لاحظت مدى اندفاع حلف شمال الأطلسي لضم الدول التي كانت في الكتلة الشرقية وحتى ضمن الاتحاد السوفييتي، والأمر لا يمكن أن يعبر عن اتجاه ودي نحو روسيا، وبما ان الدول الأوربية تتمسك عادة بمسألة السيادة والقرارات السيادية حين يكون الأمر لصالحها، فإن موسكو تريد من كييف نفسها أن تعلن بأنها لا تريد أن تدخل في حلف شمال الأطلسي، فمن الواضح تماما أن روسيا لن تسمح بأي حال من الأحوال أن تنتشر قوات الناتو قرب الحدود الروسية في الأراضي الأوكرانية
البند الثالث
بات هذا البند ملحا بعد خديعة الدول الأوربية لروسيا في ضمان تنفيذ معاهدة مينسك لحل الأزمة الأوكرانية سلميا ودبلوماسيا، ثم تبين من تصريحات الرؤساء الأوربيين أنفسهم أنهم كانوا يخدعون روسيا، ويودون كسب الوقت لشحن أوكرانيا بكميات كبيرة من الأسلحة كي تقاتل روسيا، وأنهم لم يكونوا أساسا ينوون تنفذ اتفاقية مينسك، ثم جاءت توريدات السلاح الهائلة المتتالية والتي ابتدأت ببساطة بالدروع والخوذات الواقية، ثم وصل الأمر إلى تزويدها بكميات كبيرة من المدرعات والدبابات والصواريخ، وقريبا حتى طائرات اف 16 ، فعن أي وضع آمن يمكن الحديث بعد ذلك، من هنا تصر روسيا على نزع سلاح أوكرانيا، بحيث يتم الاتفاق على عدد معقول من الأسلحة التي لا تشكل تهديدا لروسيا.
أما مسألة خلو أوكرانيا من السلاح النووي فقد تم ذلك أساسا بالاتفاق بين موسكو وواشنطن ولندن عام 1994 في مذكرة بودابست حيث غدت أوكرانيا عضوة في معاهدة الحد من الانتشار كدولة غير نووية، إلا أن بوتن ذكر ذلك ضمن بنود مقترحاته لكيلا تسعى كييف مجددا للحصول على السلاح النووي، وذلك بعد أن عبر زيلينسكي عن رغبته في أن تكون أوكرانيا دولة نووية مجددا “لردع روسيا”، فقد أعلن في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2022 أن كييف بإمكانها أن تلغي مذكرة بودابست لعام 1994 وتعود دولة نووية.
البند الرابع
وهو بند شائك حقا، فالدول الغربية لا تريد أن تقر بحقيقة تصاعد النازية الجديدة في أوكرانيا، وذلك فقط لأنها موجهة ضد روسيا، لكن معطيات الشارع في مظاهرات المشاعل والصلبان المعكوفة وتصريحات وممارسة السلطات التي استولت على زمام الأمور في كييف تؤكد ليس وجود نازية جديدة وحسب، بل وصعود نازية متطرفة كان من ثمار ممارساتها قصف وقتل آلاف الناس المدنيين في دونباس لأنهم روس تحديدا ورفضوا انقلاب عام ألفين وأربعة عشر، لكن الصعوبة تكمن في تحويل مفهوم اجتثاث النازية إلى واقع، وأول مظاهره إسقاط السلطات الحالية والتي، صفت جميع الخصوم بنفسها، وتخلَّصت من أي تنوع آخر حتى في البرلمان، لذا لا بد من تفكيك البنى التنظيمية للنازية الجديدة في أوكرانيا .
البند الخامس
وهو الذي بسببه نشبت الحرب عمليا بعد اتخاذ إجراءات قمعية ضد الروس بما في ذلك حرمانهم من التحدث والتعلم بالروسية، وإلغاء كونها لغة رسمية ثانية، من هنا جاء في المقترح أن تصان حقوق وحريات ومصالح السكان الروس في كل مكان في أوكرانيا، وهو امر بديهي تطبقه دول العالم بما في ذلك أوروبا ولو شكليا في معظم الأحيان، لكنه أمر مصان في دساتيرها، فلماذا لا تراه حقا للروس في أوكرانيا، والروس بالمناسبة مضطهدون في دول البلطيق كذلك.
المواقف الغربية من مقترحات بوتين
نظرة سريعة لمضامين مقترحات بوتين تشير إلى أنها جميعها إيجابية منطقيا ومن وجهة النظر الروسية، وحتى بما يتعلق بالاعتراف بالمناطق الجديدة وهو أمر قد يبدو للوهلة الأولى أنه اقتطاع لأراض أوكرانية وضمها لروسيا، لكن الواقع هو أن جميع هذه المناطق هي أراض روسية تاريخيا، وقد ضمتها موسكو لأوكرانيا في خطوات مقصودة لتعميق العلاقات ضمن بلد واحد، وكانت تسمى روسيا الجديدة “نوفوروسيا” أي أنها إجراءات إدارية ضمن الاتحاد السوفييتي الذي سعى توسيع رقعة أوكرانيا لكي يكون لها صوت في الأمم المتحدة، وقد صوتت خيرسون وزاباروجية التي تعيش فيها أغلبية روسيا لصالح الانضمام لروسيا خشية ما يمكن أن يلحقها من أذى في ظل السلطات النازية الجديدة.
على أية حال سارعت كييف إلى رفض مقترحات بوتن معتبرة أنها خارجة عن المنطق وأعلن بودولياك مستشار الرئيس زيلينسكي أن هذه المقترحات مهزلة كاملة، واعتبرت كامالا هاريس نائبة الرئيس بايدن أت مقترحات بوتن لا تدعو أوكرانيا إلى المفاوضات بل إلى الاستسلام، وأعلن أوستن وزير الدفاع الأمريكي أن بوتن لا يملك الحق في إملاء شروطه على أوكرانيا، واعتبر ستولتنبرغ أمين عام حلف الناتو المقترحات الروسية هو تحقيق لأهداف روسيا، من جهتها أعلنت الخارجية الروسية تعليقا على رفض أوكرانيا للمقترحات أن نظام كييف يحرم الأوكرانيين فرصة تحقيق السلام، خاصة أن هذه المقترحات تتضمن أيضا أن روسيا ستعلن وقف إطلاق النار مجرد أن تنسحب القوات الأوكرانية من المناطق الروسية الجديدة، واستعداد موسكو للتفاوض بحيث يكون الاتفاق ليس هدنة مؤقته بل سلاما دائما.
نشير أخيرا إلى أن الرئيس الروسي أعلن بوضوح أنه في حال لم يوافق الغرب وأوكرانيا على هذه المقترحات فأن الوضع لاحقا سيتضمن شروطا مغايرة.