• موسكو ترد بعقوبات على إعلام الاتحاد الأوروبي بأكثر من عشرة أضعاف العقوبات التي فرضها على مؤسساتها الإعلامية
لم تكن هذه المرة الأولى التي تعلن فيها موسكو أن رغبة إدارة بايدن بإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا واهمة تماما، كونها تنطلق أساسا من اللامعقول على جميع الأصعدة، أي حتى لو قررت الولايات المتحدة جر الناتو لحرب مكشوفة مع روسيا فإنهم يدركون أن الغرب بذلك سيفنى مع فناء العالم بحرب نووية تمحق كل شيء، قد تبدأ بأسلحة تكتيكية وتنتهي بالأسلحة الاستراتيجية التي ستعلن بدء الشتاء النووي المديد، ولم يكن الرئيس بوتين يمزح حين قال ما حاجتنا لهذا العالم إن لم تكن روسيا موجودة فيه!
من أهم التوجهات الاستراتيجية الروسية
من جديد يعلن وزير الخارجية الروسية لافروف أن رغبة واشنطن إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا محكوم عليها بالفشل، منوها بأن سعي بعض الدول سابقا للسيطرة على العالم عسكريا وسياسيا انتهت بشكل كارثي بالنسبة لهذه الدول، والأرجح أنه يقصد دول المحور بقيادة ألمانيا النازية، المهم في الأمر أنه أوضح بسطوع عددا من القضايا المحورية من أهمها أن الأهداف التي وضعتها روسيا نصب عينيها لإنقاذ المواطنين الروس في أوكرانيا، بما في ذلك استرجاع المناطق التي كانت تاريخيا لروسيا أمر لا يمكن حتى الحوار بشأنه، وادعاءات الغرب بأن النزاع في أوكرانيا سينتهي بمجرد العودة إلى حدود عام 1991 هي في الواقع ادعاءات تستدعي الضحك، وعلى صعيد الأمن الإقليمي والدولي أكد لافروف أن روسيا يهمها أن لا يشكل الغرب تهديدا لها، وأنها تخطط لتجميع صيغة موسكو نيودلهي بكين، كما أشار في منتدى “قراءات بريماكوف” أن الأمم المتحدة باتت تحتاج إلى التكيف مع التعددية القطبية، لكنها تعاني صعوبة في هذا المجال نتيجة الهيمنة الغربية في الأمم المتحدة. كل ذلك يعطي تصورا عميقا عن بعض توجهات الاستراتيجية الروسية الحالية.
الأمن الأوراسي
في غضون ذلك تعطي روسيا الأولوية للأمن الأوراسي ولا ترغب بتوسيع دائرة المواجهات، فهي في غنى عنها، من هنا أكدت ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية أن موسكو تسعى لضمان الأمن الأوراسي وليست معنية ولا تنوي الانجرار إلى أية مواجهات بين الأحلاف التي تنتهي عادة بنتائج صفرية، وأن الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد الأوروبي يعملان على تأجيج بؤر التوتر في أوراسيا، وكذلك في الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ، وذلك في محاولة للحفاظ على هيمنتها، وشددت على أن روسيا تسعى لتكريس السلام والاستقرار والتنمية والإزدهار، ويهمها منع أي اضطرابات جيوسياسية كبرى، بل أن تحقق ضمانات عسكرية سياسية موثوقة ليس لروسيا وحدها، بل لكل المنطقة.وكان الرئيس الروسي قد أعلن عن استعداد روسيا لبحث أمور الأمن الأوراسي الموحد مع جميع الأطراف المعنية والمنظمات الدولية بما في ذلك بلدان أوروبا وحلف شمال الأطلسي، من جانب آخر شدد وزير الخارجية الروسية لافروف على أن التهديدات الحقيقية للأمن الأوراسي تأتي من النهج العدواني للناتو. وهكذا يبدو واضحا للعيان أن موسكو تدرك ليس فقط ما يظهر على السطح في نوايا الغرب بقيادة واشنطن، بل وما هو كامن في الأعماق أيضا، ويحاول الغرب إخفاءه.
حوار العقوبات
في الوقت الذي تعلن موسكو مرات عديدة وبلهجات متعددة عن استعدادها للحوار مع الغرب وحتى مع مؤسساته العسكرية، سعيا للتفاهم على أقل تقدير حول ما هو ممكن، يقابل الغرب بتنوعه هذه الرغبة لدى موسكو بعنجهية تقطع كل الجسور، عبر عقوبات جرارة لا نهاية لها، في محاولة للّعب على أعصاب موسكو المعروفة بهدوئها ودراسة الأمور بتؤدة قبل اتخاذ قرار حتى لو كان في إطار التعامل بالمثل.
وخير مثال على ذلك أن روسيا اليوم يجب أن تسجل في كتاب غينيتس للأرقام القياسية حيث باتت تحتل المركز الأول في عدد العقوبات ضدها من مختلف الدول والمنظمات، تلك العقوبات التي باتت تزيد عن 17 ألف عقوبة على الأرجح، والحبل على الجرار كما يقال، والواقع أن الغرب استنفد تقريبا كل المجالات التي يمكن أن يفرض فيها عقوبات ومعيقات، وبات يبتكر ويفرض عقوبات حتى على أشخاص وشركات لا علاقة لها على الإطلاق بالحرب في أوكرانيا ولا حتى بالشؤون العسكرية، بما في ذلك المؤسسات الإعلامية، ولكي نوضح مدى صبر موسكو على هذه التصرفات غير المنطقية نشير إلى أن الخارجية الروسية فرضت قيودا على وسائل إعلام غربية بعد مرور أكثر من سنتين على العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوربي على وسائل إعلام روسية.
المفارقة المؤلمة
قد يبدو للوهلة الأولى أن روسيا خرقت مبدأ التعامل بالمثل، فقد فرض الاتحاد الأوروبي حظرا على وكالة نوفستي، وروسيا اليوم، وسبوتنك، وصحيفتي إزفيستيا وروسكايا غازيتا، وكان ذلك منذ فبراير عام 2022، وصبرت روسيا عمليا 27 شهرا لترد على هذه العقوبات، ولكن بشكل جامح ومؤلم لاتحاد الأوروبي!
والحقيقة أن العقوبات الروسية جاءت مذهلة حيث فرضت حظرا على 81 مؤسسة إعلامية غربية بما فيها كبريات المؤسسات الإعلامية في دول الاتحاد الأوروبي من بينها على سبيل المثال الليموند الفرنسية، وشبيغل الألمانية، ووكالة فرانس بريس، وصحيفة إلموندو الإسباينة وعشرات الصحف والوكالات والمؤسسات الإعلامية الأخرى! ما الدافع إلى هذه المفارقة؟
الحقيقة أن الأمر يتعلق بالشطط الذي غاص فيه الاتحاد الأوروبي خاصة أن قياداته لا تخفي العداء لروسيا، والتبعية المطلقة لواشنطن، ولا يمكن ألا نربط بين صدور قرار الحظر الروسي لوسائل الإعلام العديدة هذه في الاتحاد الأوروبي وبين قرار الاتحاد الأوروبي بفرض الحزمة الرابعة عشرة من العقوبات على روسيا، والتي تبدو أنها باتت نوعا من الروتين، وحتى السباق على فرض العقوبات، فقد شملت عقوبات الاتحاد الأوربية التي كانت قاسية وغير مبررة 116 فردا وكيانا روسيا كما أدرج الاتحاد الأوروبي 61 شركة من روسيا والصين والإمارات وتركيا في هذه الحزمة، وفرض حظرا على تقديم الخدمات لاستكمال مشاريع الغاز الطبيعي المسال، ناهيك عن أن ذلك تزامن مع مصادرة عائدات الأصول الروسية في بنوك الغرب وتقديمها لأوكرانيا، كذلك تزامن ذلك مع فرض اليابان عقوبات على 11 فردا روسيا و 41 مؤسسة متنوعة، وعقوبات أمريكية بالغة القسوة طالت حتى بورصة موسكو.. كل ذلك يمكن أن نضيفه إلى عبارة معبرة تماما وهي ” طفح الكيل”، وبالتالي أرادت روسيا أن تقول بقرارها المؤلم للاتحاد الأوروبي “يداك أوكتا وفوك نفخ”.
خطوتان نحو الحرب وخطوة لدرئها
هناك تغييرات هامة حدثت في انتخابات البرلمان الأوروبي لم تعط أوكُلُها بعد، في رجحان كفة اليمين المتطرف في هذه الانتخابات، وهي رغم خطورة ممثليها وما يمكن أن يطرحوه مستقبليا، إلا أنها توحي بهبوب رياح تغيير جدية وخاصة في إطار التحرر من التبعية لأمريكا، ولكن الأمر حسب تقديراتنا سيمر عبر مخاض عسير جدا لا يستثني انعكاسه على الشارع الأوروبي، فالقديم ولو رسميا فقط ما زالت له الكلمة وحتى بعض القيادات الأوربية كماكرون بدأ بنفسه بفتح جبهات المواجهة من خلال طرح انتخابات مبكرة، بعد أن حقق اليمين الفرنسي المتشدد ضعف ما حققه حزب ماكرون في تلك الانتخابات، ومع ذلك يلفت النظر أن دول الاتحاد الأوروبي أو بالأحرى ممثليها السابقين انفسهم اختاروا إعادة تعيين رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” في منصبها لولاية ثانية، زد على ذلك أنهم اتفقوا على أن تتولى رئيسة الوزراء الإستونية “كاياك الاس” منصب مفوض السياسة الخارجية، وكلاهما من أشد المعادين لروسيا، ويخشى أن يقودا الأمور حتى إلى صدام مباشر معها، ومع ذلك نرجح أن تجري تعديلات لاحقا على المناصب، والأغلب أن تفقد دير لاين منصبها حينذاك، فاليمين الفائز بانتخابات البرلمان الأوروبي لا يمكن أن يترك الأمور تمضي كالسابق وكأنه لم يحقق أي نصر يذكر.