مع تزايد الإخفاقات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة وعلى جبهات الإسناد اللبنانية واليمنية والعراقية، تستعر غريزة الانتقام الهمجي ضد البشر والحجر وحتى الشجر على مساحة فلسطين التاريخية، قتلاً وتدميراً وتنكيلاً من أجل القتل والتدمير والتنكيل ليس إلّا. كما يتزايد معها تقاذف الاتهامات بين شتى القيادات السياسية والعسكرية، ضمن نهج الدفاع عن الذات كما تتحوصل الطفيليات. وما يلفت الانتباه أن هذا التقاذف لا يتناول الإخفاقات المتراكمة بعد السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي، بل تمحور حول ما جرى صبيحة يومذاك، مع تسويف المتقاذفين بالاتهامات لفتح أي تحقيق حول ما جرى من إخفاق مركّب عسكرياً واستخباراتياً وأمنياً وسياسياً يومها…؟!
لعل أبرز تلك الاتهامات والاتهامات المضادة والتي يجدر تناولها في هذه العُجالة، ما أدلى به نتنياهو في معرض رده على تصريحات بعض القادة العسكريين التي تحاول رمي كرة نار الإخفاقات في ملعبه وحكومته المتطرفة، حيث شدّد على أن “إسرائيل دولة لها جيش وليست جيشاً له دولة”، وهي مقولة تستحق التوقف عندها وسبر أغوارها تمحيصاً وتحليلاً واستنتاجاً.
بداية لا بدّ من التعرّف على شخص المدعو نتنياهو والذي يعني بالعبرية “الإله أعطى” وما يوازي بالعربية “عطا الله”، وهو الاسم المزوَّر لاسمه الحقيقي البولندي “ميليكوفسكي” شأنه في ذلك شأن غالبية القادة الصهاينة الذين زوّروا أسماءهم لإيهام العالم بأنهم ينتمون للمنطقة ومتجذّرين فيها. سيراً على نهج كبيرهم الذي علّمهم الكذب “غرين” البولندي أيضاً الذي سمّى نفسه “بن غوريون” والذي اعترف في أواخر حياته الانعزالية في النقب: “اتضح أن معظم اليهود لصوص أقول هذا عن قصد لأن هذا صحيح مع الأسف”.
وعودة إلى مقولة نتنياهو إيّاها، فإن اطلاق اسم “إسرائيل” على الكيان الصهيوني يمثّل واحدة من كبريات الكذبات وما أكثرها، فإسرائيل هو لقب للنبي يعقوب عاش قبل نزول “التوراة” على النبي الرسول موسى بأربعة قرون، وقد صوره كتبة “العهد القديم” في “الكتاب المقدّس” بأبشع صورة لا أخلاقية، حيث صارع الله وانتزع منه لقب “إسرائيل” عنوة، وحرفوا معنى هذا اللقب من الباحث عن الله الحق إلى صارع الله، فضلاً عن خداعه لوالده النبي إسحق والتآمر مع والدته لانتزاع البركة من والده التي يفترض أنها من حق أخيه الأكبر “عيسو”، ثم هروبه منه بعد ذلك… أمّا تسمية الكيان الصهيوني “دولة” فهي كذبة كبرى أخرى، فالدولة نتاج عقد اجتماعي “دستور” بين الشعب الممتد زمانياً ومكانياً على رقعة أرض لها حدود معروفة ومحددة، فهل الجماعات اليهودية المنبوذة أوروبياً والتي أصبحت فائضاً بشرياً يجب تصديره، واقتضت مصلحة الغرب الاستعماري على الاتفاق مع الحركة الصهيونية لتوظيف هذه الجماعات في كيان وظيفي استيطاني إحلالي قتالي يكون وكيلاً للمصالح الاستعمارية الغربية في المنطقة العربية والشرق أوسطية وتم التوافق أخيراً على خيار فلسطين لموقعها الإستراتيجي الحيوي، وتم اسقاط الخرافات التوراتية عليها بعد أن كانت تتعلق نفس الخرافات بسيناء المصرية والطريق البري الألماني النازي شرق الفرات، وغيرها من أوغندا إلى ليبيا وحتى الأرجنتين.
إذاً نحن أمام عملية كذب وخداع وتضليل متواصل، وقد كان موشيه دايان الأوكراني الأصل والعلماني الملحد وأحد قادة عصابات الهاجاناه يردد عبارة “أرض إسرائيل لشعب إسرائيل تبعاً لتوراة إسرائيل”، و” العرب أمة لا تقرأ وإن قرأت لا تفهم وإن فهمت لا تفعل”، و” إن عمر إسرائيل محدود وعلينا أن نطيله أطول مدة ممكنة”. وقد ترجمها الحاخامات المتطرفين بعبارة “إله إسرائيل حلّ بشعب إسرائيل وأرض إسرائيل” فأصبحنا أمام قدسية “الشعب والأرض”. وعليه فأننا أمام عصابات مسلحة رعاها خير رعاية “الانتداب البريطاني” وانتحلت صفة “جيش”، تفعل ما تشاء من قتل وحرق وتدمير وتنكيل وطرد، ولا يحق مساءلتها عمّا تفعل، ومَن يتجرأ من “الأغيار” على مجرّد انتقاد أفعالها المشينة يحلّ عليه غضب “إله إسرائيل” الذي حلّ بشعبه وأرضه، وهو ما يتجلّى بأبشع صوره في هستيريا التصريحات ضد حتى منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة وحتى قادة الدول المصنِّعة والداعمة لهذا الكيان الشاذ بنيوياً ومسلكياً. ويبدو أن نتنياهو قد صدق وهو من الكاذبين عندما اعترض على “جيش له دولة” أو بالأحرى عصابات متوحشة منفلتة من عقالها انتزعت في ظل معادلات دولية جائرة لقب “دولة” مشروطة وفريدة من نوعها.
لكن ما تقدّم لا يعني بأي حال من الأحوال عدم وجود صراعات داخل مكوّنات هذا الكيان ـ وهو ما يحتاج إلى بحث آخر ـ لكن يجمعهم اللاءات المتكررة: لا للتخلي عن الأرض، لا لدولة فلسطينية حتى منزوعة السلاح والدسم، لا لوقف الاستيطان والتوسع، لا للمساس بأمن الكيان وفق مفهومه الخاص. وتتجلى تلك اللاءات في شعارات: “الموت للعرب”، “محمد مات”، البصق على الكنائس المسيحية بكونها دار كفر، احتقار وتكفير المسيحيين بشتى طوائفهم والتباهي بصلب وقتل المسيح باعتباره كاذب وكافر، وهذه حقائق تكشفت للعالم أجمع بعد طوفان الأقصى المتواصل.