مَن يعتقد أن تمسّك “حزب الله” بسلاحه وتعزيز قدراته العسكرية وإصراره على الثالوث الذهبي: الجيش والشعب والمقاومة يجلب المخاطر على لبنان فهو واهم، ومَن يرى في جبهة الاسناد اللبنانية لغزة مسوّغاً لشن حرب إسرائيلية مدمِّرة على لبنان يجهل الحقائق التاريخية والمعاصرة الدامغة، ومَن يظن أن الكيان الصهيوني يستهدف طائفة أو منطقة دون أخرى في لبنان لا يعرف حقيقة هذا الكيان وفلسفته الاستئصالية الإجرامية التي ترفض التعايش أو حتى التسامح مع الآخر وربما لم يسمع بعد مقولته “العربي الجيد هو العربي الميّت” ودون تمييز بين الطوائف المسيحية والإسلامية المختلفة.. كما أن مَن يتوهّم أن الاتفاقيات مع هذا الكيان برعاية دولية أو التطبيع معه أو حتى ترسيم الحدود وهوالذي لا حدود له قد تحول دون استهدافه سيقع حتماً في المحظور عاجلاً أم آجلاً، ومَن لديه أدنى قناعة أن شن هذا الكيان لحروبه العدوانية والتوسعية يحتاج إلى مبررات وذرائع يجب درءها لا بدّ من إعادة النظر في قناعته…
غالبية التوقعات الرائجة تستبعد إقدام الكيان الصهيوني على شنّ حرب على لبنان، وأن إيقاع ما يجري في جبهة الإسناد اللبنانية مضبوط بما يُسمى “قواعد الاشتباك”، وأن الأصيل الأمريكي والغربي لا يريد ذلك خوفاً على وكيله من هكذا مغامرة غير مضمونة الأبعاد والنتائج وحرصاً على صون مصالحه في المنطقة، مستندين في ذلك إلى سيل من التصريحات الرسمية السياسية والعسكرية الأمريكية والغربية وكذلك الإسرائيلية بعدم الرغبة في توسيع الصراع والذهاب إلى حرب إقليمية قد تتوسع إلى عالمية من جهة، وعدم قدرة الكيان على خوض حرب على عدة جبهات معاً.. وهنا تُثار جملة من التساؤلات: هل الكيان الصهيوني قام واستمر بذاته أم بفعل ودعم خارجي منقطع النظير..وهل يحارب فعلياً بطاقاته الخالصة أم يدفع الآخرين لخوض حروبه العسكرية منها وغير العسكرية.. ثم متى اعترف هذا الكيان في عدوانيته بضوابط أو التزم بقواعد وقوانين وضعية وهو المقدّس المتعال الذي لا تحدّه حدود وضوابط وقواعد وقوانين “الأغيار” البشرية.. ومتى كان الكيان ليس في حالة حرب مع لبنان وغيره ـ وغيره هذه تحتاج إلى بحث ليس هنا مجاله ـ سواءً بحرب مباشرة أو غير مباشرة عبر وكلائه وعملائه، والتاريخ المعاصر خير شاهد على ذلك..؟؟
إن الإفصاح عن الأطماع الصهيونية في لبنان كلّ لبنان تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر مع إعلان تأسيس الحركة الصهيونية في مؤتمرها الأول المنعقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897، حيث أطلق مؤسسها والأب الروحي للكيان الصهيوني العلماني الملحد ثيودور هيرتزل شعار “أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل” وهو ما يعني أن كامل جغرافية لبنان الحالية جزء لا يتجزأ من “أرض الميعاد” التي يجب “تحريرها” من الشعب اللبناني الأصيل “المحتل“! وحتى عشية النكبة الفلسطينية وما بعدها تجاوزت العصابات الصهيونية حدود التقسيم الاستعماري البريطاني الفرنسي وكانت تطمع في الاستحواذ على مياه الليطاني ـ وما زالت طبعاً ـ ثم كان عدوان 1967 واحتلال مزارع شبعا بمعية ما تم احتلاله، وكانت “عملية الليطاني” عام 1978 واحتلال جزء من الجنوب اللبناني، وكان اجتياح لبنان 1982 واحتلال أول عاصمة عربية بعد اغتصاب فلسطين، وفرض اتفاقية 17 أيار الاستسلامية المُذلّة، وتوالت المجازر الوحشية والاعتداءات الهمجية على الأرض والشعب اللبناني، وهبّ المقاومون وحولهم غالبية الشعب في حرب تحرير مريرة وقاسية مع عدو متغطرس قوي لا يرحم، إلى أن تم التحرير في أيار 2000. لكن الكيان الحاقد الطامع لم يتخلّ عن أهدافه الإستراتيجية تجاه لبنان، وإنما واصل القتل والتدمير وصولاً إلى حرب تموز الضروس 2006.. ولا يزال على ذات النهج، وما يؤكد ذلك كمّ التصريحات الرسمية منها وغير الرسمية التي تتوعد لبنان أرضاَ وشعباَ بالسحق والإبادة وإعادته للعصر الحجري، واحتلال لبنان كاملاً كجزء من “الوعد الإلهي المقدس” المزعوم…
رُبّ قائل يقول أن الكيان مردوع أو مهزوم ولا طاقة بشرية لديه لاحتلال وهضم لبنان أو غيره، هنا لا بدّ من التذكير بماضي الجزيرة الصغيرة مساحة وسكاناً والتي تحوّلت إلى الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، قد احتلت الهند أضعاف أضعاف ديمغرافيتها ببضعة آلاف بريطاني، واحتلت فلسطين وقضت على حامية القدس العثمانية البالغة حوالي 25 ألفاً بمئات الضباط الإنجليز وعشرات الآلاف من الجنود وصغار الضباط العرب والمسلمين. كما يجدر التذكير بأننا نتعامل مع كيان إقصائي يرفض ويستبيح “الآخر” أيّاً كان هذا الآخر وتحكمه غريزة الانتقام وشهوة القتل والتنكيل والحرق والتدمير، وتسيطر على مخيّلته أسطورة شمشون الجبّار التلمودية، الأمر الذي يجعل من أفعاله وردود أفعاله غير خاضعة للعقل والمنطق أو أيّة قيم أخلاقية أو فطرة إنسانية سويّة…
من هنا ندرك أن حتمية الحرب على لبنان لا جدال فيها، حيث يعتبر الكيان الصهيوني نفسه يخوض حرباً وجودية “مقدسة” تهدد قدسية أرضه المزعومة وقدسية مستوطنيه والأهم قدسية الجيش الذي يُفترض أن لا يقهر أو تتزعزع قوته الردعية وتفوقه. لكن النقاش يُفترض أن يدور حول توقيت هذه الحرب من جهة، وكيفية خوضها من جهة أخرى. وبالتالي فإن مَن يريد من اللبنانيين صون نفسه وأهله وعشيرته وطائفته وأرضه بمَن فيها وما عليها، أن يدرك جيداً أنه جزء من كلّ لبناني مستهدف. ويعي أن دروس التاريخ تؤكد على أن الحصون والقلاع تسقط أولاً من الداخل، وحال سقوطها لا يشفع حتى للمتعاون على إسقاطها تعاونه بل سيطاله ما يطال القلعة ومَن فيها قتلاً وتدميراً أو استعباداً في أقصى الحدود. ولهم في ما آلَ إليه مصير عملاء الاحتلال عام 2000 خيرعبرة، وما شاهدوه من مصير عملاء الاحتلال الأمريكي لأفغانستان الذين تعلقوا بعجلات وأجنحة الطائرات الأمريكية المنسحبة عبرة أخرى..