
أحداث الساحل السوري – زوبعة في فنجان ولكنها دموية دامية (الجزء الثاني)
د. أيمن أبو الشعر
• مغامرة قادة ترهلوا وباتوا يهتمون بمصالحهم، وقد خسروا المعركة دون قتال عندما كان لديهم جيش ضخم مزود بالدبابات والطائرات والصواريخ.
• المسلحون بمئات الآلاف استباحوا جبال العلويين، وقتلوا بدم بارد أعداد كبيرة من المدنيين بما في ذلك أسرا كاملة.
احتقان الطرفين
نجحت “الثورة السورية” ضمن ظروف غير عادية، وعبر أسرار أشرنا إلى بعضها في الجزء الأول من هذه المقالة، وسينكشف بعضها الآخر بعد مرور الزمن، المهم أن الفصائل المسلحة التي وحَّدها الجولاني “شكلا” انتصرت وأوصلته إلى رئاسة الجمهورية، وبالتالي كان بديهيا من جهة أن يُسرِّح الجيش ويلغيه، وكذلك الأجهزة الأمنية كلها لفقدان الثقة وكونها الجهة التي كان يتقاتل معها، ويبدأ بتشكيل جيش وقوات أمنية جديدة، ومن جهة ثانية كانت هذه الفصائل بتركيبتها أساسا فصائل جهادية سنية وكذلك قوى الأمن الجديدة، ولم يستفد من عشرات آلاف الضباط ومئات آلاف الجنود ورجال الأمن غير المتورطين في سفك دم الشعب السوري، بل تم النظر إلى كامل أفراد الجيش والأجهزة الأمنية على أنهم من فلول النظام رغم أن الأجهزة الجديدة للحقيقة سوت وضع عدد غير قليل منهم، لكن مئات الآلاف أصبحوا فجأة بلا رواتب وبلا طعام لأسرهم، أما القيادات الكبيرة السابقة والمنتفعون الكبار فقد غادر معظمهم البلاد، وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من حكم السلطات الجديدة ظهرت كوامن حقد تتنامى وخاصة من مجموعات التكفيريين في هذه الفصائل، وبات خطاب المحاسبة عبر بعض التصريحات وخاصة عبر وسائط التواصل الاجتماعي تمارس شحنا طائفيا خطيرا موجه بشكل خاص إلى العلويين والدروز ولكن للعلويين بشكل خاص، وتم نشر مقاطع فيديو تظهر بعض العلويين الذين تم القبض عليهم بنهمة أنهم من الشبيحة أي المنتفعين من النظام السابق، وهم يجبرونهم على الركوع والنباح، ما أشعر الأبرياء من العلويين بالمهانة، وزاد الطين بله أن الوضع الاجتماعي لمئات الآلاف الذين سُرحوا سواء من الجيش والقوات الأمنية أو من وظائفهم وغدوا دون مصدر رزق فانخرطوا في المجموعات المسلحة التي شكلت من جديد بقيادة بعض فلول النظام، ولكن الهدف بات مواجهة الفصائل التي كانت تمارس القهر والإذلال، ويبدو أن الشرع ليس له سلطة كافية عليها.
الانتفاضة المسلحة الغبية
رغم فهمي لحالة الاحتقان الشديد المقابل، والوصول إلى حالة مزرية إنسانيا واجتماعيا إلا أن الحركة الانقلابية كانت غبية إلى حد كبير، وكان محكوما عليها بالفشل رغم نجاح خطواتها الأولى، فقد استغل الذين قاموا بها تذمر سكان جبال العلويين الذي أهملوا بالمناسبة في العهد البائد، ولهذا فإن معظم قراهم فقيرة وفقيرة جدا، واستغل هذا الفقر أيضا لدفع شبابهم للتطوع في الجيش، وبالتالي بعد انتصار الجولاني وتسريحهم هرب كبار الضباط، وظل البسطاء منهم في قراهم بلا مورد فتم استغلالهم من جديد لحركة تمرد غبية غير منطقية، فأقصى ما كان يمكن أن تفعله هو إثارة البلبلة، وتهيئة المنطقة للانفصال.
يقول المثل الروسي: “بعد انتهاء المشاجرة لا يجوز التلويح بقبضات اليدين للتهديد والوعيد!”، فهذه القوات التي من الواضح أن قادتها ترهلوا وباتوا يهتمون بمصالحهم ومكاسبهم خسروا المعركة الرئيسية دون قتال عندما كان لديهم جيش ضخم مزود بالدباابات والطائرات والصواريخ، وهربوا عمليا من مواقعهم وتحصيناتهم إلى قصورهم في الجبال، ثم شكَّل بعضهم مجموعات مسلحة جديدة، ونجحت هذه القوات رغم هزالتها بمحاصرة مراكز الشرطة وقوات الأمن، حيث قام غياث الدلا قائد أركان الفرقة الرابعة في النظام السابق بإنشاء ما أسماه المجلس العسكري لتحرير سوريا، وشكَّل ثلاثة ألوية هي : “درع الأسد”، و”لواء الجبل”، و”درع الساحل”، وظهرت أسماء عسكرية أخرى من رموز النظام السابق كمقداد فتحية، وإبراهيم حويجة، وسهيل الحسن، بدأت عمليات التمرد في قرية بيت عانا شرق جبلة في محافظة اللاذقية، بنصب كمين لدورية عسكرية تابعة للأمن الداخلي وهذه القرية هي مسقط رأس سهيل الحسن قائد قوات النمر في نظام الأسد، وتمكن بهذه القوات من السيطرة المؤقتة على اللاذقية وطرطوس وبانياس وتوابعها، وحاصر مراكز الشرطة والأمن، وأقام هؤلاء المسلحون كمائن عدة على طريق حمص اللاذقية مرورا بطرطوس وبانياس وجبلة، وكذلك على طريق حلب اللاذقية وتمكنوا بتوقيت متزامن من اصطياد الدوريات التابعة للأمن العام الجديد، وانتشروا داخل هذه المدن وسيطروا عليها شكليا مع القرى والبلدات التابعة لها، كما أنهم سيطروا على الكلية البحرية في جبلة وهاجموا حتى مشفى المدينة، واستمرت الاشتباكات لعدة أيام انهزمت خلالها القوى التي قامت بهذا التمرد الأرعن غير مدروس العواقب، ولكنها خلفت عددا كبيرا من الضحايا من الطرفين وخاصة من رجال قوات الأمن العام الجديدة، وفتحت الباب أمام عملية رهيبة جدا ستظل بقعة دامية في تاريخ سوريا الحديث.
فزعة المسلحين المناصرين للسلطة الجديدة ودمويتهم
أسفرت معارك التمرد الغبي عن مقتل عدة مئات من رجال الأمن التابعين للهيئة، مما أسفر عن غياب أية سلطات مسؤولة، وبما أن العديد من مراكز الأمن والشرطة باتت محاصرة، وعناصر الدوريات قتلوا خرجت صيحات الثأر وإعلان النفير العام من المساجد، تُوجه عبر مكبرات الصوت في إطار ما يسمى بالفزعة ” أي النجدة”، وانطلق مئات الآلاف ، بعض المصادر تشير إلى قرابة نصف مليون مهاجم من مختلف المناطق من السنة المتشددين، واستباحوا القرى العلوية والأحياء التي يتواجد فيها العلويون بكثرة في المدن الساحلية، وحسب معظم المصادر المحلية وشهود عيان كان يجري القتل للناس العُزَّل، ومعظمهم من النساء والشيوخ والأطفال، وتمت إبادة عائلات بكاملها بما في ذلك الأطفال الصغار، بعضهم من الرضّع أو الذين لم تتجاوز أعمارهم السنتين، واضطر عشرات الآلاف إلى مغادرة بيوتهم واللجوء إلا الأحراش والغابات الجبلية الوعرة والمبيت في العراء رغم الطقس البارد وخاصة في الجبال، واستمرت الملاحقات وحتى قصف تلك الغابات وخاصة القريبة من القرداحة ما أدى إلى اشتعال النيران فيها، واضطر الآلاف من الأهالي إلى اللجوء مع أطفالهم إلى قاعدة حميميم للاختباء في القاعدة الروسية، ورغم التباينات في تقدير عدد ضحايا هذا الهجوم على المناطق العلوية، إلا أن معظمها يشير إلى عدة آلاف، وقد يتكشف بعد استتباب الأمور أن الرقم كبير جدا بعد إحصاء الذين قتلوا داخل بيوتهم، ناهيك عن أن الجثث ظلت عدة أيام مرمية في الشوارع. إنها مذبحة مروعة دون مبرر، وستبقى تشظياتها طويلا للأسف.
وسنتناول في الجزء الثالث – الأخير ردود الفعل العربية والإقليمية والدولية والآفاق المحتملة.