كثير ما يتناهى إلى مسامعنا توصيف مواقف الغرب الاستعماري تجاه قضايانا بلازمة أو بالأحرى متلازمة “إزدواجية المعايير”، وذلك على ألسنة شتى صنوف نخبنا الذين يديرون مشهد “الرأي والرأي الآخر”: العاتب منهم، والقانت، والساخط. فأمّا العاتب فهو غربي الهوى، يستجدي أصنامه التي يعبد في الغرب حفظ ماء وجهه ما أمكن، بالتقليل من الإفصاح عن الانحياز المطلق للكيان الإسرائيلي، وبتخفيف الجهر باحتقار العرب والمسلمين والإمعان في إذلالهم، كي يتمكّن من مواصلة أدائه لفروض الطاعة خير الأداء. وأمّا القانت فيئوس عبوس، يكتفي بالتوصيف والوَلولة، واجتراح بعض مقولات العامّة المثبطة للهمم من نمط: “لا يصلح العطّارما أفسد الدهر” و “اليد لا تناطح المخرز” و “اليد التي لا تقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر” و”حط رأسك مع الروس وقل يا قَطّاع الروس” و “إلبس قُبْعَك وإلحق ربعك” و “إذا إنجنّ قومك عقلك ما يفيدك” و “الكثرة تغلب الشجاعة”… فيستكين ويقعد مع القاعدين ولا يحرّك ساكناَ للتغيير بل ويُقنع نفسه والآخرين بعدم جدوى المقاومة، وهو بذلك أكثر خطورة من الصنف الأول المفضوح. وأمّا الصنف الثالث الساخط، فيحتاج إلى حديث لاحق. والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هل فعلاً هناك “إزدواجية معايير” لدى الغرب الاستعماري أم أنه من نسج الخيال الشرقي الخصب، ومَن المستفيد من إشاعة هكذا مصطلحات تَحْرِف بوصلتنا باتجاه اختلاق معارك وهمية على الطريقة الدونكيشوتية؟
أن الإجابة على هذا السؤال لا تحتاج إلى عناء البحث والتنقيب والإيغال في التفكير، فيكفي المرور مرور الكرام على وقائع التاريخ المدوّن منه والمُجْمَع عليه فقط لإيضاح الصورة لحقيقة هذا الغرب، سواءً في سلوكه بين مكوّناته الداخلية المختلفة: بدءاً من حرق روما، مروراً بحربيْ الثلاثين عاماً والمائة عامٍ، وانتهاءً بما يسمى الحربيْن العالميتيْن الأولى والثانية الغربيّتين أصلاً في النصف الأول من القرن العشرين الماضي.. تلك الحروب العبثية التي أزهقت حياة عشرات الملايين، واحتوت وقائع مُروِّعة يندى لها الجبين. أو في تعامله مع الآخرين خارجه والمقارنة بينه وبين تعامل المشرق العربي والإسلامي مع الآخرين: بدايةً من العُهدة العُمَريّة وتحرير صلاح الدين الأيوني للقدس مقابل المجازر الوحشية لما يسمّى الحروب الصليبية، مروراً بإبادة “الهنود الحمر” مواطني أمريكا الشمالية الأصليين ومثلها في قارة استراليا، وقتل واستعباد ونهب القارة السوداء إفريقيا، وما جرى على أيديهم الملطخة بالدماء في شعوب شرق آسيا. مقابل مسيرة الفتوحات الإسلامية والتي نشرت الدين الإسلامي لدى غالبية الشعوب الإسلامية دون أن يطأ مسلّح مسلم واحد أراضيها. وليس انتهاءً بتنفيذ المشروع الغربي ـ الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، مقابل فتح الفلسطينيين قلوبهم قبل بيوتهم لاستقبال الناجين “اليهود” من “الهولوكست الأوروبي”.
لعل قليلاً من التأمل في مجريات التاريخ يؤكد على السلوك المرَضي المتوحّش الذي يعكس داء متلازمة “التفوّق” بين الأعراق المتنوّعة داخل أوروبا ذاتها، ثم بين البشرة الأوروبية البيضاء وما عداها. وهو ما عبّر عنه كثير من الفلاسفة والكّتّاب والقادة الأوروبيين، والذين خلصوا إلى نتيجة مفادها ضرورة أن يسود “الإنسان الأبيض” وخاصة الأوروبي العالم ويحظى بموارده وخيراته فهو الأجدر بها وفق مختلف المسوّغات والحجج الواهية التي يدحضها العلم التجريبي والمنطق، مقابل تقديم الفتات للآخرين والإبقاء على حياة جزء منهم لحاجته إلى أسواق ومستهلكين. وما صفقات “البترودولار”، وتصريحات ترامب المشينة والمُذلَّة حول السعودية ودول الخليج إبان اعتلائه سُدة حكم “البيت الأبيض”، وتصريح جوزيف بويل مسؤول الشؤون الخارجية والسياسة الأمنيّة للاتحاد الأوروبي والمصنّف ضمن المعتدلين حول “أوروبا الحديقة” المحاطة بعالم “الأدغال”… سوى غيض من فيض للتأكيد على أن هناك معيار غربي استعماري رسمي واحد في التعامل مع الآخرين ومنهم العرب والمسلمين، مبني على التفوّق والاستعلاء والعنصرية.
واللافت أن مصطلح “إزدواجية المعايير” غير معروف أو متداول في الغرب، بل تتداوله نُخَبنا حصراً بصنوفها المذكورة أعلاه. وعودة إلى الصنف الثالث الساخط والذي يجري التعويل عليه في المواجهة المفتوحة والتغيير المرتجى، لا بدّ من إعادته النظر في تكتيكاته من حيث الشكل والمضمون، وبما يخدم الوصول الأمثل والأسهل لتحقيق إستراتيجته الوحدوية والتحررية المأمولة والتي طالت عذابات انتظارها.
وللحديث بقية.