فور انهيار الثنائية القطبية مباشرة مطلع تسعينيات القرن العشرين الفائت وتفكك حلف “وارسو”، أماطت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في “الناتو” وخاصة الغربيين منهم، اللثام عن وحش كامن كان يتوق للانفلات من عقاله، ويتوارى خلف مساحيق الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان الخدّاعة. فباشرت تنفيذ خطط الهيمنة والتدمير الجهنميّة المُعدّة مسبقاً، مبتدئة بالعراق الذي يقع في رأس قائمة الدول العربية الثلاث المطلوب تفكيكها صهيونياً وفق ما نُقل عن مؤسس الكيان الصهيوني في فلسطين “بن غوريون” قوله: “قوّتنا ليست في سلاحنا النووي بل في تدمير وتفتيت ثلاث دول كبرى حولنا العراق سوريا ومصر إلى دويلات متناحرة على أسس دينية وطائفية، ونجاحنا لا يعتمد على ذكائنا بقدر ما يعتمد على غباء الطرف الآخر”. فكانت حرب الخليج الأولى، ثم احتلال أفغانستان تحت مزاعم “الحرب على الإرهاب”، ثم احتلال العراق، وحروب “الربيع الغربي” في ليبيا، وسوريا، واليمن وتأسيسها حتى لداعش وأخواتها الإرهابية بحسب تصنيف المؤسِّس ذاته… وكان لافتاً أن أمريكا تخوض وتقود هذه الحروب جهاراً نهاراً وبمنتهى القسوة والجبروت والتبجّح والعنجهية غير عابئة بالأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة ولا بالقانون الدولي والإنساني، لما اقترفته ورعته من جرائم همجية يندى لها جبين الإنسانية… لكن ما يلاحظ في الآونة الأخيرة محاولات تفادي الولايات المتحدة الظهور في واجهة القيادة المباشرة سواءً في فلسطين المحتلة وخاصة منها قطاع غزّة أو في أوكرانيا، والاكتفاء بالقيادة عن بعد ما أمكن، ومحاولة لعب دور القاضي الظاهر والجلّاد الباطن معاً.. فما عدا مما بدا؟؟
لقد أدركت قيادات “البيت الأبيض” من حزبيْ السلطة المتداولة الديمقراطي والجمهوري حجم الضرر الذي لحق بالولايات المتحدة، من حيث كره معظم شعوب العالم لها واانحسار المتسارع لنفوذها وضمور سطوتها، أو تكلفة حروبها الباهظة المقدرة بتريليونات الدولارات وتأثيراتها الشاملة على الداخل الأمريكي باستثناء مجمعات الصناعات العسكرية، والأهم تقليص الفجوات بينها وبين كبار المنافسين العالميين وفي مقدمتهم الصين التي تشير توقعات الإستراتيجيين الأمريكيين أنفسهم بأنها ستتجاوز الولايات المتحدة مع نهاية العقد الجاري. ورغم محاولاتها تحميل الآخرين وخصوصاً دول الخليج العربي أعباء حروبها، إلا أن ذلك لم يحدث فارقاً كبيراً في الانحدار الأمريكي، وتزايد حجم الدين العام باستمرار وبأرقام فلكية.
وعليه، فقد بتنا نشاهد مشاركة فعلية للقوات الأمريكية في قطاع غزة، ظهرت جليّاً في مشاركتها العملياتية الميدانية من خلال المنصة البحرية العائمة “الإنسانية” في مجريات مجزرة النصيرات المروّعة بحجة تحرير الأسرى الأربعة والتي راح ضحيتها أكثر من ألف مدني فلسطيني بين قتيل وجريح وبالمعية قتل أربعة أسرى آخرين، وكذلك مشاركة نخبة الجيش الأمريكي الخاصة في البحث عن الأنفاق في منطقة الشجاعية شمال القطاع، حيث تعرضوا لإصابات محققة بنيران المقاومين… في الوقت التي ترعى ما يسمى “وقف الحرب” وتحاول إعطاء ضمانات بذلك؟!
أما في أوكرانيا، فإنها تدفع دول النيتو لمزيد من التورّط في الحرب، وتحميل دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا العبء الأكبر، في الوقت الذي تحافظ فيه على الإمساك بدفة القيادة عن بعد. محاولة بذلك ضرب عصفوريْن في آن واحد: استنزاف وإضعاف روسيا والاتحاد الأوروبي معاً، على حساب المواطن الأوروبي ودماء وممتلكات الشعب الأوكراني المخدوع والذي يدفع أثماناً باهظة في حرب ليست حربه أصلاً؟!
إن التخفّي الأمريكي خلف عصابات زيلينسكي ونتنياهو بات مكشوفاً، كما أن لعب دور القاضي والجلّاد غدا واضحاً وضوح الشمس في كبد السماء، لكن ما هو غير مفهوم وملتبس هو استمرار البعض مجاراتها في هذه اللعبة القذرة، وتحميل المواطن العربي والمال العربي والأرض العربية الأثمان الباهظة، علاوة على ما سبق أن تحملته ولا تزال من أحمال تنوء بحملها الجبال.. فمتى سنستفيق من كابوس التبعية، ونحجز لنا مقعداً نحن جديرون به في النظام الجديد متعدد الأقطاب الذي يبدو أن الولايات المتحدة ذاتها قد بدأت إدراك استحالة إيقاف قطاره المتسارع؟؟