مع دخول غزة حرب الأبادة بأبشع صورها شهرها العاشر في ظل صمت عربي وإسلامي شبه مطبق، دخل الكثيرون دائرة الصدمة المذهلة التي تبحث عن مبررات لمثل هذا الصمت المستهجن، محاولين استنباط إجابات لزوبعة من التساؤلات التي ما انفكّت تستعر في خلَجات نفوسهم المتعبة كبركان متأجج يقذف حممه خبط عشواء.
ومما يزيد الطين بلّة مشاهدة الاحتجاجات الشعبية وحتى الطلابية في ميادين وساحات وشوارع المدن والجامعات الغربية وحتى الأمريكية الرافضة لسياسات حكوماتها الداعمة بلا حدود للكيان الإسرائيلي المجرم، واستمرار تلك الاحتجاجات رغم القمع والاعتقال وإجراءات كم الأفواه وحملات التضليل الإعلامي وغسيل الأدمغة الباهظ التكاليف، والذي يبدو أنه قد سقط أمام الحقائق الدامغة لهول وفظاعة وضخامة الجرائم الإسرائيلية غير المسبوقة في التاريخ الإنساني التي تُرتكب جهاراً نهاراً بمنتهى العنجهية ومع سبق الإصرار والترصّد.
وبعيداً عن سبر أغوار التاريخ العربي والإسلامي، ومسببات الوصول إلى حالة الاستكانة والتبعية والخنوع بل وحتى الذيلية مقارنة بالشعوب والأمم الأخرى، وهو ما يحتاج إلى أبحاث ودراسات موضوعية ومعمّقة. يمكن في هذه العجالة الاكتفاء بتعليق الجرس، ودق ناقوس الخطر، أو “طرق جدران الخزّان” بحسب الكاتب والروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، فقد بلغ السيل الزّبى، حيث تضافرت جملة متداخلة من عوامل الشذوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي، سمحت للاستعمار الغربي بالنفاذ والاحتلال والتقسيم وبسط النفوذ وزرع الكيان الصهيوني الشاذ في فلسطين المحتلة، ومع الأسف كان لتجّار “الدين” دوراً محوريّاً في إضفاء الشرعية والقداسة على ذلك الشذوذ، من خلال تكريس “تديّن” مجتمعي يقوم على ليّ عنق النص الديني المقدّس وتأويله بعيداً عن المراد منه خدمة لوليّ الأمر الفاسد المفسد لإضفاء الشرعية والقداسة عليه وتحويله إلى الحاكم بأمر الله، وتحويل عموم الشعب من مواطنين إلى مجرّد رعايا أو بالأحرى قطيع.
ولأن دوام الحال من المُحال، ولأن لكلّ جواد كبوة ولكل غفوة صحوة، فقد جاءت تفاصيل ومفاعيل ما يحدث في فلسطين لتُشكّل صدمة قويّة ومدعاة للشكّ والمراجعة وفتح البصر والبصيرة، فكيف يُفتى بالجهاد في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والشيشان والبوسنة والهرسك وغيرهم وتستثنى فلسطين بل ويُعاب على مجاهديها، وكيف يُجاز الاستقواء بالأجنبي لتدمير العراق وسوريا وليبيا، وكيف يُحلّل قتل معمر القذافي وإعدام صدام حسين فجر العيد، وكيف وكيف..؟؟
ولعل مما يُبشّر بالخير، ما يُشاهد من إرهاصات بقدوم سيل التغيير الجارف الذي سيصبّ حتماً في بحر النهضة والتقدّم والتحرر من التبعية والخنوع واسترداد المواطن كرامته المهدورة بل ومواطنته المسلوبة. مع الاعتذار من الشاعر اللبناني إبراهيم اليازجي على التأخير الطويل في تلبية دعوته في قصيدة “يقظة العرب” التي نشرها عام 1868 أي قبل ثلاثة عقود من المؤتمر التأسيسي للحركة الصهيونية، والتي جاء في مطلعها: تنبّهوا واستفيقوا أيّها العربُ فقد طمى الخطب حتى غاصت الرُّكبُ
هذا التأخير الذي تسبب في غوص كامل الجسد العربي في بحر من الدماء والويلات، لكن وبحسب القول الصيني المأثور: أن تصل متأخّراً خيراً من أن لا تصل.