قرنان وربع القرن من زمن بغي الغرب الاستعماري البغيض تجاه فلسطين وطناً وشعباً، منذ أن أطلق نابليون بونابرت الوعد الأول لليهود بوطن قومي لهم وهو يحاصر أسوار عكا التي حطّمت كل أحلامه الإمبراطورية عام 1799، ليأتي الوزير البريطاني “آرثر بلفور” المعروف بمعاداته للسامية ورغبته بالخلاص من عبء اليهود بتصديرهم إلى خارج بريطانيا العظمى التي لم تكن حينها تغيب عنها الشمس، ليطلق وعده المشؤوم بعد 118 عاماً ـ عام 1917 ـ وهو لم يظفر بعد بالتراب الفلسطيني، ولهذا اعتبر وعداً “ممّن لا يملك لمَن لا يستحق”، وكان ما كان في غفلة من الزمان، وصولاً إلى أقذر حرب كونية في التاريخ البشري التي دخلت عامها الثاني، مثلما بدأت عامها الأول زخماً وشجاعة وصبراً لا نظير له حتى في الأحلام.
من كان يتخيّل أن شعباً في هذا العالم، تآمر عليه الشقيق والصديق والغرب الاستعماري بكلّ جبروته وعدّته وعتادته وجيوشه الجرّارة، يمكن أن يحتمل كل ما أصابه من ظلم متواصل تنوء بحمله الجبال الراسيات، وتنخّ له أقوى شعوب الكوكب الأرضي، وتستسلم أمامه أعتى الجيوش المدجّجة بمختلف صنوف الأسلحة، وهو الأعزل المخذول، ولا يختزن سوى الصبر والإيمان والإرادة الصلبة التي لا تلين.. كفلت له ديمومة الصمود واستحق الحياة بجدارة. وغدا أنموذجاً فريداً، ومدرسة لكافة الأمم والشعوب قاطبة.
وها هو عام جديد على “طوفان الأقصى” يأتي يستشرس فيه “الكيان” النازي في حرب الإبادة والمجازر والجرائم اليومية، لم يترك فيها سلاحاً وذخائر محرّمة إلّا واستعملها على المدنيين الأبرياء، بما فيها حرقهم أحياء وهم نيام في خيام النازحين، متجاوزاً ما يزعم من “هولوكست” هتلر الألماني، وبسلاح ألماني وغربي وأمريكي هو الأحدث في ترسانة الغرب الاستعماري المتوحّش، وأمام مرآى ومسمع العالم الذي لم يعد قادته يجرؤون على مجرّد الانتقاد والمعاتبة، أو حتى فتح الفم للتثاؤب، وكأنه بات سيّد العالم بلا منازع، كما تجاهر عصابة هذا “الكيان” الإجرامي المسعور المهووس بالقتل والتدمير والتنكيل، والمصاب بجنون العظمة المستشري في عروقه، حتى على صانعيه وداعميه ومغذّي عروقه المنتنة، في مشهد فريد لم يحصل من قبل وربما لن يحصل في تاريخ المعمورة.
لقد شهد تاريخ فلسطين القديم كما الحديث مدى صلابة الشعب الفلسطيني، وتمسّكه بترابه الوطني وتراثه الحضاري، وكيف تكسّرات فوق رباه وأسواره كافة جحافل جيوش الغزاة. وها هو العدوّ قبل الصديق يشهد له الآن بذلك، رغم كلّ ما أصابه من قتل وتدمير وتنكيل وخذلان لم يشهد له التاريخ الإنساني مثيلاً، حيث بات قدوة لشعوب العالم أجمع بمدى الصلابة والصبر على الشدائد، والإيمان الذي لا يتزعزع بحتمية انتصار الحق على السيف، ومجسّداً تاريخه المجيد بأن فلسطين كانت وستبقى مقبرة الغزاة الهمج مهما تكالبوا وكان جمعهم قوة وبأساً ووحشية، ومهما غلت التضحيات الجِسام، ففلسطين تستحق كل غالٍ ونفيس.