لا يمكن من وجهة نظري، فهم الأسباب العميقة للانهيار الذي نشهده على أرض الواقع العالمي اليوم بشكل عام، وفي فلسطين وشرقي المتوسط بشكل خاص:
أولا، لمفاهيم أساسية (مثل “الشرعية الدولية” و”العدالة الدولية” و”القانون الدولي الإنساني”…)،
ثانيا، ضرب السقف الموضوع سلفا للمؤسسات الدولية الكبرى (الجمعية العامة للأمم المتحدة، منظمات الصحة والزراعة والطفولة واللاجئين إلخ، )،
وثالثا، الازدراء المعلن لكل ما يمس “العدالة الدولية” في المؤسسات الدولية الأهم (محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية)، لا يمكننا ذلك دون العودة إلى القواعد التي بنيت عليها الأمم المتحدة والقضاء العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، الإنجازات والإخفاقات التي عشناها في نصف القرن الماضي الأخير، والتراجعات الكبيرة التي شهدها العالم مع جعل “الحرب على الإرهاب” الناظم الرئيس لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وما ترتب على ذلك من عولمة حالة الطوارئ على حساب عالمية الحقوق الإنسانية، تزعزع أركان الإمبراطورية الأمريكية في الداخل والخارج، وأخيرا وليس آخرا، الدور الذي أعطي لمجلس الأمن للتربع على عرش كل ما يتعلق بالأمن والسلام والعدالة على الصعيد العالمي منذ ثمانين عاما.
وصف القاضي البريطاني نورمان بيركيت محاكمات نورنبرغ (من 20/11/1945 إلى 1/10/1956) بالقول: “أعظم محاكمة في التاريخ”، ولم تلبث أن أصبحت هذه الجملة تتكرر في أهم الجامعات الأوربية والأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين. في نظرة أولية لنشأة وتكوين وآليات ومجريات هذه المحكمة، نجد أننا أمام محكمة لا تتمتع بالصفات الدنيا لاستقلال القضاء الجنائي الدولي بل بكل الصفات التي تنزع عنها الاستقلالية والشفافية: فهي محكمة استثنائية المسيرة، عسكرية البزة، انتقائية الهدف، محكمة حصرية الانتساب بدول انتصرت في الحرب، كشرط أساسي في بنيتها ووظيفتها[1].
في 11 ديسمبر 1946، أقرت الجمعية العامة مبادئ القانون الدولي لمحكمة نورنبرغ في تحديد الصفة الجرمية أي (الجرائم ضد السلام، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية). وفي 9 ديسمبر 1948، صدرت اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية وعلينا انتظار 28 نوفمبر 1953 لإدخال جريمة العدوان باعتبارها أخطر جريمة ضد السلم والأمن الدوليين. إذن ومنذ البدء بالحديث عن العدالة الدولية دخلنا في نفق القرار السياسي والقضائي المسبق القائم على أن القوى المنتصرة في أي حرب، هي التي تفرض الشكل والمضمون والغاية من أية محكمة تنشأ خلالها أو على أعقابها. هذه الخطيئة الأصلية ستبقى بقعة سوداء كبيرة في مسيرة بناء عدالة دولية مستقلة حتى اليوم. ولعلها اليوم أكثر من أي وقت مضى، من أسباب تهاوي أشكال المقاضاة الدولية التي قلما نجحت في الخروج من منطق “عدالة الأقوى”.
“الشرعية الدولية” ومجلس الأمن!!
كما يذّكر جيمس أ بول في كتابه “في الثعالب والدجاج”: “سعى الأعضاء الخمسة دائمًا إلى إبقاء المجلس خارج أي نظام قانوني، وبما يتجاوز أي قيود قد تقيد أيديهم أو تحدد إجراءاتهم مسبقاً. كانت حكومة الولايات المتحدة، التي تشير في كثير من الأحيان إلى “سيادة القانون” وأهمية احترام القانون الدولي، حازمة بشكل خاص في الإصرار على أن المجلس يضع القانون ولكنه غير ملزم بالقانون. كتب جون فوستر دالاس، وهو محامٍ ورجل دولة أمريكي مؤثر، في عام 1950 أن “مجلس الأمن ليس هيئةً تطبق القانون المتفق عليه فقط. إنه قانون في حد ذاته”. ومضى دالاس ليقول: “لم يتم وضع مبادئ قانونية لتوجيهه. يمكنه أن يقرر وفقًا لما يعتقد أنه مناسب[2]“.
تُثبت ممارسات المجلس رأي دالاس، على الرغم من أنها قد تبدو في ظاهرها غير ذلك. “مجلس الأمن يتحدث باستمرار بصوت القانون. يقوم بانتظام بسن القانون، وتفسير القانون، وتطبيق القانون”[3] كما يقول خوسيه ألفاريز José Alvarez. تشير نقاشات المجلس وقراراته أحياناً إلى قواعد القانون الدولي، وأهمية القانون الدولي، وضرورة احترام القانون الدولي. ويعقد المجلس مناقشات دورية حول “سيادة القانون”. ويبقى السؤال الأكبر غائبا: عن أي قانون يتحدثون؟
مع اقتراب الذكرى الثمانين لولادة الأمم المتحدة، ما زالت هذه المؤسسة تحت سيطرة مجلس الأمن وما شهدناه مثلا لا حصرا، في استعمال امتياز “الفيتو” قرابة خمسين مرة في الملف الفلسطيني من قبل الولايات المتحدة الأمريكية خير مثال على ذلك!
الإنجازات والإخفاقات في نصف القرن الماضي الأخير
من الضروري التذكير أن نهاية الحرب العالمية الثانية أذنت بنهاية عصر الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وعودة شعوب الدول المستعمرَة بنضالات التحرر الوطني فيها للبحث عن مكان في موازين القوى الجديدة. فقد سجلت حروب التحرير الوطنية على الاستعمار الغربي أهم اختراق في المنظومة العالمية، ورغم أن صموئيل هنتغتون لا يريد أن يتذكر أن القارة الآسيوية هي التي أطلقت في مؤتمر باندونغ لعام 1955 ما يعرف بالمبادئ العشرة للتعايش السلمي، التي تصر على ارتكاز النظام العالمي على قيم ومبادئ أهمها حقوق الإنسان وسيادة كل الدول والمساواة بين الأمم كبيرها وصغيرها وتسوية النزاعات بالطرق السلمية واحترام العدالة. وتأكيد ذلك في قرارات الجمعية العامة في العهد الخاص بالحقوق السياسية والمدنية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حيث ثبتت المادة الأولى المشتركة فيهما هذا الحق:
- لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهى بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
2-لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة، التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي. ولا يجوز في أية حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة.
3-على الدول الأطراف في هذا العهد، بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسئولية إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم المشمولة بالوصاية أن تعمل على تحقيق حق تقرير المصير وأن تحترم هذا الحق، وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
رغم ذلك، فإن صراعات النفوذ في حقبة الحرب الباردة لم تسمح لهذا التحرك بأن يخترق مسيرة الهيمنة لمجلس الأمن وضرورات إصلاحه. ومع سقوط جدار برلين، وعوضا عن بناء عالم أكثر عدالة، بقيت حيتان المنظومة الدولية تحارب بشدة لتمكين هيمنتها وفرض رؤياها على العالم. لذا وبالرغم من نجاح الحركة المدنية العالمية في عقد مؤتمر روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن عنجهية القوة استيقظت من جديد عبر الوفد الأمريكي الذي ضمن تحييد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، في معركته لوضع المحكمة الجنائية الدولية تحت الوصاية دون أي التزام تجاهها.
ففي الأيام الأخيرة من مؤتمر روما الدبلوماسي في العام 1998، اعترف واضعو الميثاق بالسماح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتدخل بشكل إيجابي وسلبي في ممارسة اختصاص المحكمة. في الأساس، وتم منح مجلس الأمن السلطة التقديرية:
(1) لإحالة الحالات إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق.
(2) لمطالبة المحكمة بعدم البدء أو المضي قدمًا في التحقيق أو الملاحقة القضائية لمدة اثني عشر شهرًا قابلة للتجديد.
هذه الطريقة التي تم بها تنظيم العلاقة المصممة بين مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية أثارت مخاوف قوية بين العديد من الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية وفي مجتمع مدني عالمي يطمح لهيئة قضائية عالمية مستقلة، وما زالت موضوعًا مثارًا لضرورة الإصلاح المؤسسي لهذه العلاقة.
لم يمنع رفض ثلاث دول أعضاء في مجلس الأمن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، من أن يكون لمجلس الأمن دورًا رئيسًا في سياسات المحكمة من خلال «حقه» في فتح دعاوى قضائية كبرى وإيقاف أخرى. وعندما باشرت المحكمة الجنائية الدولية ولايتها في عام 2002، طالبت الولايات المتحدة المجلس بمنح حصانة شاملة تحول دون إحالة أفراد حفظ السلام الذين ينحدرون من دول ليست أطرافاً في المحكمة (الولايات المتحدة ليست طرفاً كذلك روسيا والصين)، وقد اشتكت الولايات المتحدة من أن المحكمة الجديدة ستخضع المواطنين الأمريكيين للعدالة الدولية “ذات الدوافع السياسية”. وهددت واشنطن باستخدام حق النقض (الفيتو) لمنع جميع بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إذا لم يصوت مجلس الأمن على حمايتها من أية محاكمة محتملة. وافق مجلس الأمن على طلب الابتزاز هذا واعتمد قراراً في يوليو/تموز 2002، يمنح حصانة شاملة لمدة اثني عشر شهراً (القرار 1422/2002). شعر العديد من أعضاء المجلس بالإهانة من التهديد الأمريكي، الأمر الذي لم يمنع صدور القرار بالإجماع. استخدمت الولايات المتحدة مرة أخرى تهديدها بسلطة “الفيتو” وجددت بنجاح ترتيب الحصانة بعد عام. إلا أن فضائح تعذيب الإدارة الأمريكية للمعتقلين في العراق وخليج غوانتانامو وأفغانستان، والتسليم الأمريكي السري للسجناء، وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة تجاه معايير العدالة الدولية أضعفت موقف واشنطن. تراجعت الولايات المتحدة، وتخلت عن الأمر بالكامل في عام 2007. كان لتفعيل الاختصاص الجنائي العالمي وملاحقة وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد في بلدين أوربيين بتهمة ترخيص التعذيب، دورا هاما في إدخال المواثيق الدولية لحقوق الإنسان طرفا في موضوع الملاحقة القضائية والمحاسبة. إلا أن المحكمة الجنائية الدولية بقيت أضعف من ميثاق روما، ولم تتجرأ على الخوض في أي معركة، مباشرة أو غير مباشرة مع مجلس الأمن. إلى أن وقعت المواجهة الأولى في قبول عضوية دولة فلسطين بعد ست سنوات من الممانعة، والثانية في فتح ملف جرائم الحرب في أفغانستان الذي كان سببا للمواجهة المفتوحة بين الرئيس الأمريكي السابق والمحكمة الجنائية الدولية. أصدر دونالد ترامب في يونيو/ حزيران 2020، أمرًا تنفيذيًا يسمح للولايات المتحدة بحجز أصول من أسماهم “محكمة الكونجورو” من موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ومنعهم وعائلاتهم من الدرجة الأولى من دخول البلاد. وفي سبتمبر/ أيلول 2020، قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو؛ سيتم فرض عقوبات على فاتو بنسودا (المدعية العامة وقتئذ) وعلى مسؤول كبير آخر في المحكمة الجنائية الدولية، فاكيسو موتشوتشوكو بموجب الأمر، مضيفًا أن أولئك الذين “يدعمون هؤلاء الأفراد ماليًا معرضون أيضًا للعقوبات”.
وصلت الرسالة، وتحدد سقف المحكمة الجنائية الدولية، وصار من الضروري أن يعرف “المدعي العام” السقف المسموح له به. وعبأت بريطانيا لاختيار مدعي عام جديد للمحكمة الجنائية الدولية يعرف جيدًا الخطوط الحمراء في وظيفته! ولكنه أيضا يعرف أن هذه الهيئة القضائية مهمة وضرورية في مرحلة تراجع العولمة وولادة عالم متعدد الأقطاب كانت الحرب الروسية الأوكرانية أولى تعبيراته الحادة.
منذ أخذت كلمة العولمة حقها في القاموس السياسي والثقافي اليومي كان بعدها القضائي غائبًا، بل لعل هذا الغياب جزء أساسي من عملية إعادة صياغة أشكال الهيمنة الداخلية والإقليمية والدولية. ويمكن القول إن الطرف الأقوى في المعادلة الدولية عشية ما أسماه فوكوياما “نهاية التاريخ”، الولايات المتحدة الأمريكية، لم يعد يتعامل مع العدالة الدولية أو منجزاتها في نصف القرن الماضي إلا من موقع الغلبة، جاهدًا للالتفاف على المحكمة الجنائية الدولية الناشئة، واتفاقيات جنيف، والعرف الدولي، وابتزاز الأمم المتحدة، والحصول بالقوة والضغط على قرارات من مجلس الأمن للقيام بما يشاء. وعندما لا يفلح في الحصول على قرارات أممية، يبرم الاتفاقيات الثنائية أو يقيم تحالف الراغبين، تحالف محدد في الزمان والموضوع ad hoc بما يتناسب مع المصالح الاقتصادية والجيو استراتيجية لبقاء المنظومة الأحادية القطب سائدة.
لتوضيح معالم هذه السياسة، نستعرض بعض الأمثلة العيانية، خاصة في العقدين الماضيين بدعوى الحرب على الإرهاب، لإرهاب الحكومات وإخضاعها لمطالبها:
- إصدار مجلس الأمن القرارين 1487 و1422 اللذين ينصان على عدم ملاحقة العاملين في قوات حفظ السلام من الأمريكيين بتهم جرائم الحرب وغيرها.
- إبرام اتفاقيات ثنائية مع دول صدقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كي لا تتم محاسبة أو ملاحقة أمريكيين على أراضيها.
- توقيع القرار 17 من بريمر الحاكم الأول في العراق الذي يضع قوات الاحتلال فوق المحاسبة والقانون في العراق.
- التمسك برفض تشكيل لجنة دولية للإشراف على الإنترنت في قمة المعلوماتية الأخير كبديل لهيمنة دولة واحدة على هذا القطاع.
- اتخاذ قرار من المستشارين الأمريكيين بتعريف خاص لجريمة التعذيب للالتفاف على ما وقعت عليه هي نفسها، أي اتفاقية مناهضة التعذيب: “المقصود بالتعذيب وفق هؤلاء، هو إنزال أذى بدني بشخص ما بشكل يؤدي إلى تعطل عضو من أعضاء جسمه. أما إذا لم يحدث تعطل أو تلف لأحد أعضاء الجسم فإن وسائل الاستجواب المستخدمة لا تعتبر تعذيبًا، كما لا تخالف أي قانون أميركي أو دولي أو أي معاهدات معمول بها بهذا الشأن”.
- رصد الإدارة الأمريكية العمليات المصرفية في 7800 مؤسسة بنكية في العالم.
- فرض قرار يطالب بكشوف كاملة ودقيقة على الجمعيات الإنسانية والخيرية في العالم الإسلامي والتي تقوم بالدور الذي يفترض من الحكومات أن تؤديه في مواجهة الفقر والبؤس، مما أدى إلى إقفال بعضها أو تجميد أموالها.
- اتخاذ قرار بتعهد أي جمعية غير حكومية تنال مساعدة أمريكية أهلية أو حكومية بعدم التعامل مع أي طرف تتهمه الإدارة الأمريكية بالإرهاب.
- استصدار قرارات تخولها أن تتسلم خارج القضاء من تشاء من الأشخاص من غير مواطنيها، وعندما تشاء ومن دون حتى أن تقدم دليلًا على اتهاماتها له.
ما سميناه بعولمة حالة الطوارئ، في ظل ما سمته الإدارة الأمريكية “الحرب على الإرهاب”، أدخل كلمة الأمن مقومًا من مقومات الشرعية السياسية، وجعل من الحرب الأهلية العالمية عنصرًا أساسيًا من عناصر إعادة بناء مناطق النفوذ. يتوقف المرء وهو يرصد حروب القرن الواحد والعشرين التي حصدت الأخضر واليابس أمام وجهة نظر جيورجيو أغامبن في “الأمن والإرهاب”:
“لقد أصبح الأمن المعيار الوحيد للشرعية السياسية. فكرة الأمن تحمل في طياتها خطرًا أساسيًا. إن أي دولة تجعل الأمن غاية أساسية ومصدر شرعية هي مجرد جسم هش، جسم يسمح للتعرض المستمر لتحريض الإرهاب ليصبح بدوره إرهابيًا”.
هذا إن لم يكن الإرهاب والتمييز العنصري عنصرًا أساسيًا في تكوّن الدولة بالأساس كما هو حال نظام الأبارتايد الإسرائيلي.
باتت إدارة العالم “أسهل” مع قوانين مناهضة الإرهاب وسيادة الحالة الاستثنائية ووجود منظومات موازية تجعل الأمم المتحدة ومجلس الأمن المشرع الضروري لسياسة الأمر الواقع للأقوى، ومنح حلف شمالي الأطلسي منذ عام 1999 امتياز إعلان حرب خارج نطاق الأمم المتحدة في الكوسوفو، بشكل جعل مصطلح الشرعية الدولية فضفاضًا واسع الذمة وحمال أوجه تتسع لطموحات الهيمنة الأمريكية.
بدأ، إذًا، مفهوم الشرعية الدولية، بمعنى قرارات مجلس الأمن، بالتآكل أولًا بأول مع غياب احترام قراراتها من قبل الدولة المدللة للغرب (إسرائيل). وتفاقم الأمر مع إقرار عقوبات لا إنسانية على العراق، ثم تعميم “العقوبات الأحادية الجانب” من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي كوسيلة إخضاع اقتصادية وارتهان للشعوب. تأكد ذلك بعد الحرب على أفغانستان وتشكيل حلف العدوان على العراق خارج سقف الأمم المتحدة وغزوها بالفعل في العام 2003. وتتابع الأمر مع سيطرة المحافظين الجدد على مواقع القرار في البنك الدولي والمؤسسات المالية الكبرى في المنظومة العالمية.
الحرب على الإرهاب كانت الضربة القاضية للشرعية الدولية بقراءتها الشمالية. فقد صنفت حركات المقاومة في معسكر الشر والإرهاب، ووضعت التعبيرات الأهم للحركة المدنية والأهلية في البلدان الإسلامية (الجمعيات الخيرية والإنسانية) في خانة الاتهام.
هكذا، صارت القوة العظمى تقرر المشروع وغير المشروع، ومعسكر الخير ومعسكر الشر، بعيدا عن مرجعيات ومقومات هذه الشرعية. لقد اختار النظام الدولي الجديد الأمن في مواجهة الحرية، والحالة الاستثنائية في مواجهة دولة القانون، وعولمة الحرب الأهلية في مواجهة السلم العالمي، وتفتيت المجتمعات المدنية كقوة خارج سيطرة مجموعات الضغط الحديثة للهيمنة العالمية… وصرنا نشهد ما يسميه جيورجيو أغامبن “تحول المنظومة السياسية القضائية إلى آلة للموت“. فقد جرت عملية اغتيال الأساس الذي يمكن أن يقوم عليه الأمن والسلام الدوليين عبر اغتيال المعايير الأساسية للعدالة. والعدالة هي القاسم المشترك الأعلى لأي تعايش سلمي بين الدول والشعوب بل أساس أي مواجهة للتراجع الحضاري الذي أخرج شياطين التطرف الشوفيني والصراع بين الثقافات والحضارات والعصبيات الدنيئة. هي البناء الذاتي لمقومات النهوض القادر على أن يكون قوة جذب وقوة إبداع معًا، أصالة وتجديد، نظرة للعالم تتجاوز الحي والعشيرة والقوم واللون؛ إنها عدالة الجبهة الأوسع للمظلومين من أجل مناهضة عنجهية القوة.
إن شراسة العدوان الأمريكي الإسرائيلي التي وصلت حد التطبيع مع إبادة الشعب الفلسطيني، تتطلب مواجهة حضارية طموحة لبناء شبكة إنسانية واسعة تستلهم قوتها من أفضل ما أنجبت البشرية على صعيدي الدولة والمجتمع. وباعتبار العدالة محور الثقافة العربية الإسلامية المركزي والعدالة الدولية الجسم الأكثر سلامة فيما حملته الحداثة، وباعتبار أننا دخلنا في التصنيف الأمريكي كمحور للشر رغمًا عنه، لا يمكن لنا كشعوب تعرف معنى الحضارة وتمتلك أسلحة الثقافة وإمكانيات النهوض إلا أن نتصدر هذه المقاومة التي ترفض انتصار التوحش على قيم الحضارات البشرية مجتمعة.
المحكمة العالمية لفلسطين: التحضير والبناء
في العام 1966، أطلق فيلسوف كبير من القرن الماضي النداءً من أجل إنشاء محكمة دولية ضد مجرمي الحرب في فيتنام. انضم العديد من الفلاسفة والقانونيين والشخصيات العامة إلى هذا النداء الذي عرضه برتراند راسل في كلمات قليلة: “إذا كانت بعض الأفعال وانتهاكات المعاهدات تعتبر جرائم، فهي جرائم سواء أرتكبتها الولايات المتحدة أم ارتكبتها ألمانيا، ونحن لسنا مستعدين للتخلي عن هذه الأفعال. إن قاعدة سلوك إجرامي ضد الآخرين لا نرغب في التذرع بها ضدنا”. لقد أراد راسل، وسارتر، ليليو باسو، إسحق دوتشر، ديديجر، وغونتر أندرس وآخرون، تحقيق إحياء قانون مكافحة الحرب الذي وُلِد ميتًا في نورمبرج: أي سيادة القواعد الأخلاقية والقانونية على قانون الغاب.
مع فشل المؤسسات المسؤولة عن مواجهة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في القيام بما عليها تجاه أول إبادة جماعية يتابعها مئات ملايين البشر، أصبح من واجب المدافعين عن الكرامة والعدالة بناء سلطة قضائية أخلاقية لمواجهة هذا العجز. الأمر الذي يستوجب من الفلاسفة والمفكرين الأحرار وأساتذة القانون الدولي والقضاة والمحامين، والفاعلين في المجتمع المدني، والحقوقيين المستقلين الذين يسعون إلى التغلب على عجزهم عن مواجهة هذا الوضع، تنظيم تدخلاتهم الخاصة في شكل محاكم ضمير حرة ومستقلة القرار. محاكم ضمير دولية قائمة على أساس المواطنة، يتم إنشاؤها استجابة لمطالب المجتمع المدني العالمي (المنظمات غير الحكومية والجمعيات الإنسانية والنقابات العمالية والمهنية والمنظمات الدينية والفلاسفة والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان والبيئة) للتحقيق والإبلاغ. وتعبئة الرأي العام والمؤسسات ذات الصلة وصناع القرار في ضوء الفشل المستمر في احترام القانون الدولي في سياق الحقوق الأساسية للفلسطينيين أشخاصًا وشعبًا.
مهمة هذه المحكمة فحص كافة الأدلة التي يتم عرضها عليها من قبل أي مصدر أو طرف. وقد تكون الأدلة شفهية، أو في شكل وثائق مادية أو سمعية وبصرية. لن يتم رفض أي دليل ذي صلة بأهدافنا، فالهدف هو الوصول، من دون خوف أو محاباة، إلى الحقيقة الكاملة حول جميع انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الجسيمة المرتكبة في فلسطين منذ العام 1948، من انتهاك جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالشعب الفلسطيني إلى الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. فتح الأعين على نظام الأبارتايد (الفصل العنصري) الذي بني على مدى العقود الماضية بدعم وغطاء من المنظومة العالمية System-World المهيمنة التي تبرز معالم تراجعها وانهيارها بشكل جلي اليوم.
سأحاول بكلمات موجزة عرض الإجراءات التحضيرية والوقائع التي تلت تشكيل المحكمة العالمية الخاصة بفلسطين Global Tribunal On Palestine:
- عقد ملتقى دولي (سامبوزيوم) في اليوم العالمي لحقوق الإنسان بدعوة من ست منظمات غير حكومية، عقد في جنيف بتاريخ 14/12/2023، تحت عنوان: المحكمة الجنائية الدولية، تكون أو لا تكون، بحضور خمسين محاميا ومناضل حقوق إنسان وفيلسوف ومؤرخ. وكان من أهم قراراته تشكيل “التحالف القانوني العالمي من أجل فلسطين”.
- بعد ثلاثة اجتماعات لأعضاء التحالف القانوني الدولي من أجل فلسطين تقرر عقد الملتقى الدولي الثاني (سمبوزيوم) في جنيف في 4 آذار/مارس 2024. اجتماع تقرر فيه العمل على تشكيل “المحكمة العالمية لفلسطين” والإجابة على الأسئلة الثلاثة الرئيسية لذلك: لماذا؟ كيف؟ ومتى؟
- تشكلت في نهاية ملتقى 4 مارس/آذار 2004، لجنة تحضيرية بدأت بأربعة أشخاص وانضم لها تباعا ستة أشخاص وجرى تكليفي كمنسق للجنة التحضيرية بتشكيل “اللجنة المنظمة” المسؤولة عن كل ما يسمح لهذه المحكمة بالولادة في فترة زمنية لا تتجاوز المئة يوم نظرا لحالة الطوارئ القصوى الناجمة عن وضع السلطات الإسرائيلية خطتها للإبادة الجماعية في قطاع غزة واستمرار مشاريعها لابتلاع مدينة القدس والاستيطان في الضفة الغربية وحرمان الفلسطينيين من مقومات الحياة في مختلف الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد أن استكملت الحكومة العنصرية الإسرائيلية فرض نظام الأبارتايد في كامل فلسطين التاريخية.
- قام أعضاء اللجنة التحضيرية بزيارات إلى الدول الإسكندنافية وفرنسا وتركيا وتونس ولبنان وفلسطين، مع اجتماعات عن بعد مع جنوب إفريقيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والأردن وجرت الموافقة على أن يكون اجتماع الجمعية العامة للمحكمة الذي يجمع رمزيا 76 شخصية عالمية (عدد سنوات النكبة) في جنيف في الصالة الوحيدة التي قبل نلسون منديلا أن يتحدث فيها أثناء زيارته لسويسرا، مترافقا بمشاركة معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية في بيروت وجامعة الاستقلال في أريحا (فلسطين) في نفس الوقت.
- كان التجاوب والتعاون من المحامين والقضاة وكبار المثقفين ومناضلي حقوق الإنسان متجاوزا لكل التوقعات، واضطرت اللجنة التحضيرية لإغلاق باب المشاركة بعد أن اجتاز عدد طلبات المشاركة 207 مشاركا ومشاركة من 41 دولة من مختلف القارات. وجرى إعداد 23 دراسة وتقرير حقوقي ومحضر شكوى مع 27 توصية جرى تقديمها من الأطراف المشاركة. وقام فريق من المتطوعين والمتطوعات بتأمين موضوع الترجمة إلى ثلاث لغات (العربية، الإنجليزية والفرنسية)، وفريق ثان بتأمين المنصة الإلكترونية الدائمة للمحكمة عبر بناء موقع خاص www.tribunalswatch.com للمحكمة.
وقعت ضغوط كبيرة على عدد من المتدخلين والمتدخلات لعدم المشاركة تحت طائلة الشطب من نقابات المحامين. وجرى إطلاق شائعات عديدة أكثرها خبثا توزيع رسالة على العديد من المشاركين والمشاركات تقول بأن هذه المحكمة محكمة سياسية لدعم قائمة “فرنسا الأبية” والقوائم المؤيدة للقضية الفلسطينية في الانتخابات الأوربية وهذا كما يدعون “سبب إطلاقها قبيل الانتخابات الأوربية مباشرة”، وتلقى عدد هام من المشاركين والمشاركات رسائل تهديد مباشرة. ورغم ذلك انعقدت أولى جلسات المحكمة في 6-7-8 حزيران/يونيو 2024 في جمع رائع بين الأجيال والثقافات والبلدان. كانت النقاشات غنية ومعطاءة وانتخبت لجنة دائمة لمتابعة أعمال المحكمة ومهامها وكما قال الخبير الدولي الكبير ريتشارد فولك: ” هذه الخطوة من أبرز علامات الصحوة الكبيرة للمجتمع المدني العالمي“. لم تعقد هذه المحكمة لمقاطعة المحاكم القائمة، ولكن من أجل وضعها أمام مسؤولياتها ومتابعة ما تقوم به، كعين تراقب وتقيم الأداء والقصور والحسابات الناشئة عن نقاط الضعف في صيرورتها محاكم مستقلة وشفافة وأمينة لمواثيق نشأتها، من هنا اختيار اسم موقع المحكمة المركزي: Tribunals Watch، كذلك ستتابع هذه المحكمة، عبر نخبة من القانونيين والحقوقيين، كل وسائل المقاضاة في حرب دون هوادة موضوع غياب المحاسبة، الذي يشكل العنصر الأساس في تفاقم وتراكم الانتهاكات الجسيمة للحقوق الإنسانية والحقوق الفلسطينية.
بعد انعقاد المحكمة بساعات بدأت الحرب الإلكترونية على كل المواقع المعنية بالمحكمة والمواقع الشخصية لي. كذلك أغلق الحساب المصرفي للمعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان، ووصلت العديد من رسائل التهديد المباشرة بإغلاق المعهد الذي أترأسه. الأمر الذي اضطرنا لإقرار سياسة تقوم على اللا مركزية والمتابعة خارج الإعلام. وعدم الإعلان عن لجان المتابعة التي تشكلت وخطة العمل التي وضعت.
هذه المحكمة قامت وستبقى، رغم كل أشكال الحصار والمضايقات، بوصلة نضالية لكل المدافعين عن عدالة دولية مستقلة وشفافة، وبقعة ضوء للتشبيك والتعاون بين كل الأحرار الذين يعتقدون بمركزية وراهنية وعالمية الحقوق الفلسطينية في ضرورة مواجهة عملية الاغتيال الممنهج للوسائل الدولية للمقاضاة، التي تخضع اليوم للأسف لسلطان مجلس أمن يترنح أمام هيمنة أمريكية تظن أن بإمكانها فرض رؤيتها للعالم والعدالة الدولية، هذه العدالة التي وضعتها مواثيقها وقراراتها، عبر حروبها الهجينة، في غرفة العناية المشددة.
بعد المداخلة عقب مناع على أحد الأسئلة التي وجهت إليه:
أريد أن أجيب بكلمة الفلسطيني الراحل إميل حبيبي: أنا متشائل: متشائم من موقف عدد من مناضلي حقوق الإنسان في البلدان الغربية، الذين ناضلنا معا قرابة أربعة قرون، والذين نراهم اليوم في صف القاتل والمتوحش أو يلتزمون الصمت خوفا على أنفسهم، متشائم من موقف، لحكومات دول عربية وإسلامية تتفرج بصمت متواطئ على النكبة الثانية لشعب فلسطين… لكنني متفائل لأن الوحش أصبح عاريا، وأصوات الحرية ترتفع كما لم تكن يوما في مواجهته.. نحن نعيش في نهاية حقبة، ولا يمكن للقادم أن يوقف انهيار قيم الحقوق والسلام والعدالة، إن لم تكن القضية الفلسطينية فيه راهنة، عالمية، ومركزية.
مداخلة الدكتور هيثم مناع
هل يمكن وقف انهيار النظام القضائي العالمي ؟ 1
“الشرعية الدولية” ومجلس الأمن!! 2
الإنجازات والإخفاقات في نصف القرن الماضي الأخير 3
المحكمة العالمية لفلسطين: التحضير والبناء 9
[1] أنظر للتوسع في هذا الموضوع: هيثم مناع، القضاء الجنائي الدولي أو الولادة من الخاصرة، عربي 21، 14 سبتمبر 2024
[2] John Foster Dulles, an influential US lawyer and statesmen, wrote in 1950 that “The Security Council is not a body that merely enforces agreed law. It is a law unto itself.”[2] Dulles went on to say, “No principles of law are laid down to guide it; it can decide in accordance with what it thinks is expedient.”[2]
[3] “The Council constantly speaks with the voice of law. It regularly makes law, interprets law, and enforces law”