
من غزة وسائر ربوع فلسطين إلى جنوب كوريا وسوريا، إلى لعبة الديمقراطية في رومانيا ومحكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل العليا في لاهاي، إلى مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم الدولي، وقبلها فيتنام والفلبين واليابان وتشيلي وبنما وكوبا، ثم أفغانستان والعراق وليبيا وصولاً إلى أوكرانيا.. تواصل الولايات المتحدة المسارعة نحو هاوية سقوطها المُريع على كافة الصعد الإنسانية والأخلاقية والقِيَمية، مسقطة كافة شعاراتها المعلنة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي الذي تتمسّح بها وبالدفاع عنها بل وتعاقب الآخرين زوراً وبهتاناً على خرقهم لها، وهي التي بنت مجدها الموهوم فوق جماجم عشرات الملايين من السكان الأصليين ومثلهم من أبرياء الشعوب التي تطاولت وتسيّدت عليهم بالحديد والنار والفساد والإفساد ونهبت خيراتهم وثرواتهم، والحديث في هذا المجال يطول ويطول…
بالأمس القريب دفعها جنون العظمة وفائض القوّة إلى فبركة إحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، لإطلاق أكذوبة “الحرب على الإرهاب” لفرض شعار “القرن الحادي والعشرين الأمريكي” وعالم القطب الأوحد بزعامتها بلا منازع، وقامت بقيادة غزو وتدمير أفغانستان بهذه الذريعة للقضاء على جماعتي “القاعدة” و”طالبان” بعد وصمهما بتهمة “الإرهاب”، ثم بعد عشرين عاماً من ظلم الشعب الأفغاني تفاوضت مع “طالبان” واضطرت لانسحاب مُذلّ من أفغانستان، وتخلت عن حكومتها التي صنعتها بأيديها، وأذعنت لتسليم الحكم لحركة طالبان التي صنّفتها إرهابية.. ثم اتهمت العراق بإيواء “القاعدة” الإرهابية وفبركت على العالم أجمع كذبة امتلاكه أسلحة دمار شامل، واستباحت دماء مئات الآلاف من الأبرياء والملايين من الجرحى والمشرّدين، ودمّرت ونهبت مقدّرات وثروات العراق، وفرضت نظاماً فتنويّاً موالياً لها، كما فعلت من قبل في سايغون الفيتنامية وكابول الأفغانية… وها هي في سوريا تسير على نفس المنوال مع جماعات “داعش” و “القاعدة” صنيعتيْها، فبعد إدعاءاتها بمحاربتهما بنفس ذريعة “محاربة الإرهاب” الممجوجة، ورصد عشرة ملايين مقابل رأس “أبو محمد الجولاني” تتراجع وتنقلب على ذاتها، وتُجري عملية تلميع وتسويق دعائي له تمهيداً للحْس اتهاماتها له ولغيره، لنقله من خانة “الإرهاب” إلى مقاعد المعارضة و “الثوّار”.. هذه هي أمريكا على حقيقتها بلا مساحيق تجميل أو أقنعة…
ليس مستغرباً على إمبراطورية “الكاوبوي” الطارئة على التاريخ الإنساني، أن تزاحم كل الحضارات الإنسانية على مرّ التاريخ، وأن تحاول بالحديد والنار فرض نفسها على الآخرين، وإشاعة الفوضى والفتن والحروب في كافة أرجاء العالم، وتعتاش على ذلك، بل وتحاول استبدال ما توافقت عليه كافة الحضارات الأصيلة من مُثُل وقِيم ومنظومات أخلاقية وسلوك إنساني فطري سليم، وقوانين وتشريعات وضعية وسماوية عليا، بإشاعة العدمية والإباحية والمثليّة وكلّ فاحشة ورذيلة، وكل ما يُناقض الفطرة والتشريعات المُجمَع عليها، بل وإلزام الآخرين بذلك ومحاربة كل من يُقاوم أو يرفض ذلك، واتهامه بشتى الاتهامات الجاهزة. وهو تماماً ما يفعله وكيلها المجرم في فلسطين والمنطقة.. لكن المستغرب أن يجد هذا السلوك الأمريكي الساقط والمنحرف أذاناً صاغية وعقول مسلوبة وقلوب مُعجبة لدى شرائح من شعوب عريقة وضاربة في التاريخ الحضاري الإنساني، وخصوصاً لدى شعوب الشرق عموماً والمنطقة على وجه الخصوص، ومنها شعوب الشام والرافدين العريقة مهد الحضارة الإنسانية بإعتراف العالم الذين صدّروا الأبجدية والعمران والمدنية إلى شتى بقاع المعمورة…
صحيح سقطت منظومة الحكم في دمشق، لكن الصحيح أيضاً أنها أسقطت بشكل مريع منظومة الولايات المتحدة الأمريكية وكيانها النازي بشتى مفرداتهما.. وأثبت الشعب السوري وطنيته وعراقته وأصالة انتمائه الحضاري، مخيّباً آمال واشنطن وتل أبيب اللتان أرادتا عدم حسم الصراع، والإيغال في القتل والتدمير والفوضى، لتسويغ جرائم “الكيان” وتعميمه على المنطقة، وهو ما أدركه الشعب السوري وعمل على تجنّبه حتى الآن، مركّزاً على وحدة الوطن السوري بشتى مكّوناته، وبناء نظام شعبي توافقي على نقيض وأنقاض نظام الحكم السابق…
لكن ما جرى من طيْ سلمي للمرحلة الماضية، يمثّل بداية صحيحة لمرحلة جديدة، مليئة بالتحديات والمهام الجسام، ومواجهة مخططات ومؤامرات الغرب الاستعماري بزعامة واشنطن وذراعه المجرم في تل ابيب، والذين لا يريدون الخير لسوريا ولشعبها الأبي ولعموم المنطقة، ولن يدّخروا جهداً للنيل منهم، وضرب مختلف عناصر القوة والاقتدار. فالحذر الحذر، فقد بدأت صراع الإرادات بين ثقافة الحياة والبناء والحضارة، وبين محور الموت والتدمير فاقدي الحضارة وعديمي الجذور والمتطفّلين على التاريخ، ورافضي الآخر أي آخر…