
“ترامب يتعامل مع العالم كمزرعة أبقار حلوب أمريكية خاصة، ومتمسك باحتكار واشنطن لـ (قانون الحرمان) و(صكوك الغفران) على طريقة (محاكم التفتيش) الأوروبية البغيضة. استمرار ترامب بهذا النهج لاستعادة “الجبروت الأمريكي” و”العصر الذهبي الأمريكي”، وعلى حساب ومصالح كافة دول وشعوب العالم، سيكون محكوماً عليه الفشل، فلكل فعل ردّ فعل، وعليه أن يُدرك أن شعوب العالم ودوله قد تغيّرت بعد طوفان الأقصى. الجرائم الإنسانية لا تسقط بالتقادم أو الاعتذار. وإذا كان ترامب يريد تحقيق طموحه بالحصول على جائزة نوبل للسلام، فعليه ترك الغطرسة والشعور بالتفوّق والاستعلاء، والتواضع بخدمة أمريكا كأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، ويتوجه إلى روسيا والصين وغيرهما بهذه العقلية لإعادة صياغة عالم متعدد الأقطاب وأكثر عدالة ومساواة وإنسانية”
كثيرة هي الوعود التي أطلقها ترامب في حملته الانتخابية، وكأنه كان يطلق صليات رصاص خُلّبي بصورة عشوائية في شتى الاتجاهات، شأنه في ذلك شان كافة المرشحين إبان الحملات الانتخابية، حيث لا رسوم جمركية على ما يتفوّهون به ويتعهدون به من وعود، لكن يبدو أن ترامب قد شطح كثيراً في حملته الانتخابية.. وهو ما أدركه عند تنصيبه على كرسي الحكم، حيث شتان ما بين حساب السرايا والقرايا.
يبدو أن ترامب قد أعاد ضبط بوصلته بعد أن اطلع على خفايا التفوّق التقني العسكري الروسي ـ الصيني، وهشاشة الترسانة العسكرية الأمريكية والغربية مقابلها، الأمر الذي أجبره على التركيز على حرب الاقتصاد والتجارة وإنعاش سلاح الدولار المتاح أمامه. وربما من حسن حظ العالم أجمع أن هذا التفوّق هذه المرة بيد الشرق الذي تحكمه القِيم والأخلاق والفطرة الإنسانية السويّة، ويضبط سلوكه القانون الإنساني الدولي، ويحترم تعهداته ويفي بوعوده واتفاقياته والتزاماته. بعكس الغرب البربري المتوحّش الطاريء على الحضارة الإنسانية، الذي يستخدم في حروبه أقصى قوته التسليحية، وبلا ضوابط ولا حدود ولا قانون، وهو ما تؤكده مجريات التاريخ الحديث في استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي في هيروشيما وناجازاكي اليابانية فور نجاح “مشروع مانهاتن” بتفجير أول قنبلة نووية في صحراء “ألاموغوردو بولاية نيو مكسيكو الأمريكية يوم 16/7/1945، والقصف السجّادي الإبادي للمدن الألمانية الآمنة بمنازلها ومستشفياتها وكافة مرافقها المدنية ودون أن تشكّل أي تهديد عسكري أو أمني على جيوش الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حُسمت نتائجها. وهو ما احتجّ به المجرم نتنياهو في وجه بايدن عندما لامه على استهداف المدنيين ومرافقهم في غزة، وفق ما أفصح عنه مؤخراً. وذات النهج انسحب على بريطانيا التي كانت شريكاً لواشنطن في مشروع مانهاتن، ثم أقصتها الأخيرة بقانون الطاقة الذرية الأمريكي لعام 1946 “قانون ماكماهون”، فاضطرت المملكة المتحدة لمواصلة مشروعها الخاص، حيث تمكنت من تفجير قنبلتها النووية الأولى في جزر مونت بيلو غرب استراليا يوم 3/10/1952.. وكذلك فعلت فرنسا في الصحراء الجزائرية الكبرى، حيث استخدمت معتقليها كفئران تجارب بشرية لتفجيراتها النووية. وسرعان ما سرّبت هذه التقنية التدميرية إلى “كيان” الغرب الاستعماري في فلسطين، من خلال إنشائها “مفاعل ديمونا” في صحراء النقب الفلسطينية عام 1958، وبعيداً عن الولايات المتحدة التي دفع رئيسها “جون كنيدي” حياته يوم 22/11/1963، بعد تلميحه حول ضرورة كشف حقيقة ما يجري في ذلك المفاعل، وهو ما سيتكشف بوضوح إن تمكّن ترامب من رفع السرية عن عملية اغتياله. وهذا السلوك الغربي الهمجي المتأصل شاهده العالم في فيتنام وجنوب إفريقيا وأفغانستان والعراق وليبيا وغزة لبنان…
ولعل ما يثير السخرية، رغم أنه سلوك مألوف، أن يواصل الغرب الاستعماري بقيادة واشنطن مسلسل الأكاذيب والتضليل وتزوير الحقائق الدامغة، ويقحم نفسه في لعب دور الوسيط في حروب هو خطط وأعد وشارك بها بل وقادها من ألفها إلى يائها، كما حصل في أوكرانيا وغزة خاصة وفلسطين عامة، محاولاً كعادته تحميل ضحاياه مسؤولية ونتائج أفعاله الإجرامية. فما حاجة روسيا إلى وعود ترامب لوقف حرب الغرب بقيادة واشنطن في أوكرانيا، خلال 24 ساعة ثم 100 يوم، ورمي الكرة في ملعب موسكو كون مهرّجهم وخادمهم في كييف ـ أو بالأحرى هم ـ قد فشلوا في خياراتهم العسكرية وحرب عقوباتهم الاقتصادية غير المسبوقة لإلحاق “هزيمة استراتيجية بروسيا” وتفتيتها وإفلاسها رغم استخدامهم أقصى ما لديهم من أسلحة متنوعة. وهو ما عبّر عنه المستشار السياسي الروسي القريب من صنع القرار للسياسة الخارجية الروسية “رامي الشاعر” في مقال بعنوان “قطار التعددية وأزمة الغرب” نشره موقع “روسيا اليوم” يوم 23/1 الجاري. وهم الذين تنصّلوا من تعهداتهم بعدم توسيع حلف الناتو شرقاٌ باتجاه روسيا، وهم الذين حاولوا التذاكي على روسيا من خلال سلسلة اتفاقيات مينسك 2014 و 2015، وذلك كسباً للوقت والإعداد لتنفيذ خططهم المُبيّتة ضد روسيا، بواسطة نظام كييف الدمية بيدهم والعصابات النازية في أوكرانيا، وباعتراف المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي رعاة تلك الاتفاقيات. وها هم يكابرون لعدم الاعتراف بالهزيمة والفشل، رغم إدراكهم وعلى رأسهم ترامب بأن حل الأزمة الأوكرانية التي صنعوها يتمثّل بمنتهى البساطة بوقف تسليحهم وقيادتهم لها، وبالوفاء بالتزاماتهم وتعهداتهم فقط لا غير، ورغم اقتناعهم بالبون الشاسع ما بين سلوكهم البربري وسلوك روسيا التي تعاملت مع الشعب الأوكراني ومرافقه المدنية ومنشآته الاستراتيجية كأهل وجار يجب الحفاظ عليه وعلى مقدّراته، ولم تستخدم القوة العسكرية الهائلة التي تمتلكها والكفيلة بحسم النزاع سريعاً، وهو ما تيقّنوا منه وحاولوا استغلاله بخستهم ووقاحتهم المعهودة. وتلك القوة التي لم تلجأ إلى استخدامها عند تفكيك حلف وارسو والاتحاد السوفييتي بطريقة سلمية ضربت أروع نموذج للعالم لم يدركه الغرب بعد.. رغم ذلك ما زالوا ينافحون بالباع والذراع للحفاظ على هيمنتهم على العالم، والتشبث بنظام الإحادية القطبية الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة إلى غير رجعة، ولو على حساب المزيد من الحروب والفتن وإشاعة الفوضى الدموية في العالم، ووضع العصي في عجلات التاريخ المحتوم…
إن تصريحات ترامب وباكورة قراراته المتناقضة تلقي بظلال من الشك حول نهج سياساته القادمة، وتثير زوبعة من الأسئلة المتوالدة، وخصوصاً حول “بدء العصر الذهبي الأمريكي” وعودة “أمريكا القوية” و”إنهاء الحروب” ـ حروب أوباما وبايدن وحزبهم ـ بحسب تعبيره “إنها حروبهم”، وإقراره بتوريط “الكيان” المجرم لبلاده في العراق وغيرها والتي راح ضحيتها ملايين الأبرياء، وتأكيد عزمه على رفع السرّية عن ملابسات اغتيال “كينيدي” وشقيقه ومارتن لوثر كينغ و11 أيلول/سبتمبر، وتأكيده المتكرر بصناعة “القاعدة” و “داعش” ومثيلاتها من قبل أوباما وفريقه و”الموساد” ومَن تعاون معهم… فهل يستقيم ذلك مع إجراءات تقويض الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي والعدالة الدولية، بالانسحاب من اتفاقية المناخ ومنظمة الصحة العالمية، رغم كل الملاحظات على عملها وضرورة إعادة النظر في أدائها ودورها ومسؤولياتها الأممية. وهل وقف الحروب وإطفاء الحرائق التي أشعلوها يستقيم مع استمرار الاعتراف بالقدس عاصمة وبضم الجولان واستمرار الانتهاكات في لبنان وإلغاء العقوبات على عصابات المستوطنين وغض الطرف عنهم في الضفة الغربية، واستمرار تدفق السلاح الأمريكي والغربي على “الكيان” المتغطرس، وإدارة الظهر لحق الشعوب كافة في تقرير المصير، بل والتلويح بتحويل كندا إلى الولاية 51، والاستيلاء على جزيرة “غرينلاند” الدنماركية منذ 800 عام، وقناة بنما، وتهديد المكسيك، وحتى التطاول على الاتحاد الأوروبي لإعادته إلى “بيت الطاعة” بحسب الرؤية الترامبية، واستمرار تدفق السلاح لنظام كييف…
كل ما تقدّم وغيره الكثير يشير إلى أن ترامب يتعامل مع العالم كمزرعة أبقار حلوب أمريكية خاصة، وأنه متمسك باحتكار واشنطن لـ “قانون الحرمان” و”صكوك الغفران” على طريقة “محاكم التفتيش” الأوروبية البغيضة، وأنه ما زال مُصرّاً على تصنيف أو رفع الآخرين ضمن وعن “قوائم الإرهاب” التي ابتدعها أوباما وبايدن وشريكهم المجرم المطلوب للعدالة الدولية الإرهابي النازي البولندي “بنزيون ميليكوفسكي” المنتحل اسم “بنيامين نتنياهو”، وهو ما ظهر جليّاً بإعادته وضع كوبا كدولة راعية للإرهاب بعد ان كانت إدارة بايدن قد رفعتها من القائمة، وبتجديد تصنيف حركة “أنصار الله” اليمنية على “لوائح الإرهاب” الأمريكية، بعد فشل الناتو بقيادة واشنطن وتل أبيب في إيقاف دعمها للشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة والمشروعة.
إن استمرار ترامب بهذا النهج لاستعادة “الجبروت الأمريكي” و”العصر الذهبي الأمريكي”، وعلى حساب ومصالح كافة دول وشعوب العالم، سيكون محكوماً عليه الفشل، فلكل فعل ردّ فعل، وعليه أن يُدرك أن شعوب العالم ودوله قد تغيّرت بعد “طوفان الأقصى” والإبادة والمجازر الجماعية والتدمير الممنهج بالسلاح الأمريكي والغربي، بل وبالمشاركة والقيادة الأمريكية المعترف بها حتى من قادة “الكيان” نفسه، وأن العدالة الدولية يجب أن تضع أمريكا وشركائها في قفص الاتهام وتحاكمهم على ما اقترفوه من مجازر وجرائم بحق شعوب الأرض وفي مقدّمتهم الشعب الفلسطيني، ولا يكفي الاعتراف بذلك وعفا الله عمّا مضى، فهذه الجرائم الإنسانية لا تسقط بالتقادم أو الاعتذار. وإذا كان ترامب يريد تحقيق طموحه بالحصول على جائزة نوبل للسلام، فعلى ترامب ان يترك الغطرسة والشعور بالتفوّق والاستعلاء، ويسعى جاهداً إلى التواضع بخدمة أمريكا كأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، ويتوجه إلى روسيا والصين وغيرهما بهذه العقلية لإعادة صياغة عالم متعدد الأقطاب وأكثر عدالة ومساواة وإنسانية، وقبل أن يُفرض عليه الأمر الواقع لا محالة، فزمن هيمنة الإحادية القطبية والقرن الحادي والعشرين الأمريكي قد ولّى إلى غير رجعة.