
• تقدم قوات المعارضة الإسلامية كان مفاجئا حتى لبوتن الذي استغرب أن ينسحب 30 ألف جندي سوري أمام 350 مقاتلا إبان احتلال حلب
التراكم والتربص
لا بد قبل قراءة الأحداث التي عصفت بالساحل السوري موضوعيا من تمحص الأرضية التي انطلقت منها هذه الأحداث، ثم نتتبع تفجرها المتشظي المؤلم.
لنعد إلى ما قبل انتصار “الثورة”-السلطات الجديدة، دون التوغل في التفاصيل- فقد استمر الصراع منذ عام 2011 وراح يتصاعد باستمرار، إلى أن تشكلت قوتان كبيرتان متناحرتان تماما، إحداهما السلطات السورية السابقة برئاسة بشار الأسد، والقوة الأخرى هي عدد كبير من الفصائل المسلحة ذات التوجهات الإسلامية برئاسة الجولاني، وكان الأسد يعتمد بالدرجة الرئيسية على الجيش والقوى الأمنية التي كان معظمها من العلويين، وقامت قوات الأسد طيلة 14 عاما بمحاربة تلك الفصائل وقصفها بلا هوادة، مما جعل التناقض بين القوتين يأخذ طابعا له ظلال طائفية منذ البداية، ويبدو هذا الأمر ضمن تركيب القوتين أمرا طبيعيا، فالفصائل الإسلامية من السنة بمجموعها ولا وجود لأية مكونات أخرى بينها، عدا عن أن هذه القوى المناهضة لسلطات الأسد ضمت في بداية الصراع تنظيم الدولة -داعش التكفيري المتشدد، قبل أن ينشأ خلاف حاد معه، ثم تمكن الجولاني من توحيد الفصائل الإسلامية التي كان قسم غير قليل منها ليس من السوريين، بل من مختلف أنحاء العالم، وهم الأكثر تطرفا عمليا والأكثر تخلفا وابتعادا عن تقاليد الشعب السوري، وخاصة أهالي منطقة الساحل الأكثر تحررا اجتماعيا، والذين يتهمهم بعض المتشددين بغير حق بأنهم مجرمو حرب كلهم هكذا جملة وتفصيلا، وكأنما ساهموا جميعهم بلا استثناء بالحرب الشرسة، التي كان الطرفان يتوعدان بعضهما بعضا بالسحق والانتقام. بالمناسبة هناك بعض الأصدقاء الذين أعرفهم شخصيا وهم من المعارضة وبعضهم سجن أو سرح من عمله وظل من رموز المعارضة كعارف دليلة مثلا.
سر التقاعس الرهيب
العالم كله نظر مدهوشا فاغرا فاه لتقدم قوات المعارضة الإسلامية المسلحة السريع، وسقوط المدن الواحدة تلو الأخرى في أيديهم، وأين إذن الجيش السوري؟ لماذا لم يواجه ولم يقاتل رغم أن مفارقة العدد تكاد تكون واحد إلى مئة، فقد أشار الرئيس الروسي بوتين بنوع من الاستغراب أيضا إلى حقيقة أن 350 مقاتلا من الفصائل الإسلامية تمكنوا من احتلال حلب بسهولة، وانسحب أمامهم 30 ألف عسكري سوري وسلموا المدينة دون قتال… ثم حدث أمر مماثل في المدن الأخرى، من غير المعروف كيف ومن اتخذ القرار بتسليم المدن دون قتال، لكن إيران شعرت أن الوضع لم يعد ملائما فطلبت من روسيا المساعدة في الرحيل، وتم ترحيل أربعة آلاف عسكري وخبير إيراني عبر قاعدة حميميم إلى طهران، وغادرت كذلك عدة آلاف من قوات حزب الله إلى لبنان، وقسم إلى العراق، وبما أن الخبراء العسكريين الإيرانيين كانوا يساهمون بقوة في إدارة الشؤون العسكرية فقد شكل رحيلهم هزة وفوضى وارتباك، ناهيك عن حدوث تشويش تقني متزامن كما يبدو أسفر عن عدم ورود تعليمات إلى القطعات العسكرية، حتى أن بعض المصادر لمَّحت إلى أن بعض كبار ضباط الأركان العامة اتفقوا مع تركيا، ومع الفصائل سريا على عدم المقاومة حقنا للدماء، ويرى آخرون أن معظم قيادات الجيش كانت قد ترهلت وانشغلت في أنواع مختلفة من البيزنس، ناهيك عن الفساد وحصول كبار الضباط على إمكانيات مالية هائلة تظهر في قصورهم الفخمة في جبال الساحل، وبالتالي لم يعودوا أساسا من الضباط القادرين على خوض المعارك، بعد أن “كبرت كروشهم” ناهيك عن أهم عامل، وهو أن الشعب فقد ثقته بقيادات هذا الجيش، وبالسلطة عموما نتيجة ممارسات أجهزة الأمن القمعية، والتسلط وجمع الأتاوات والإعاقات التي كثيرا ما دمرت حياة أسر، ومستقبل العديد من الشباب.
الفرحة بسقوط النظام كان بمثابة ترحيب بالسلطة الجديدة
بعد سيطرة قوات أحمد الشرع على دمشق دون إطلاق رصاصة واحدة، استتبت الأمور إلى السلطات الجديدة بشكل مذهل في السلاسة واليسر، فقد خرجت جموع غفيرة جدا للترحيب بخبر فرار بشار الأسد إلى موسكو، وتكريس سقوط حكم أسرة واحدة ظل متسلطا على رقاب العباد 54 عاما، كانت الأعداد الغفيرة مؤشرا يؤكد تكريس الرحيل النهائي لبشار الأسد، وسقوط حزب البعث بغض النظر عن وجود أعداد غير قليلة من الأنقياء في الجيش وفي البعث، لكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم ومجرد ديكور رقمي لا حول لهم ولا قوة، عمت الفرحة المدن السورية كلها حتى ليتساءل المرء: أين تلك الجموع التي كانت تهتف لبشار الأسد، أستطيع القول عن ثقة وخبرة خلال أجيال، أن الجموع التي كانت تهتف لبشار كان بعضها من المنتفعين، والقسم الآخر من الخائفين والمنافقين والطامحين إلى مكاسب، حتى أنه ذات يوم دخل إلى قاعة مجلس الشعب الذي يحق له أن يحاسبه، بل من المفترض أن يساءله ويحاسبه على الأخطاء لكن جميع أعضاء الشعب استقبلوه بعاصفة “منافقة” من التصفيق، وعلت الهتافات حتى أن أحد الهتافين قال له قليل عليك أن تكون رئيس الجمهورية العربية السورية، أنت تستحق أن تكون رئيس كل العرب!!! وربما قال “رئيس العالم” لم أعد أذكر تماما… لكن القسم الأكبر من الشعب السوري كان يلملم جروح خيباته، ومعاناته من الفقر والقمع والتهميش، ولهذا لم تخرج ولا مظاهرة واحدة ولو من عشرة أشخاص لنصرة الأسد الهارب.
الانتفاضة المتأخرة
كان الناس عموما يدركون أن هناك مافيات حقيقية وخاصة في الجيش والأجهزة الأمنية، لذا وصلت الأمور إلى درجة عدم الثقة، صحيح أن الناس لا يستطيعون الحديث علنا عن تلك الفضائح، ولكنهم في جلساتهم الخاصة كانوا يتحدثون عن الثروات الهائلة التي جمعتها رموز السلطة وأنصارهم من مثل أسماء زوجة بشار الأسد، وأخوه ماهر وكذلك مجموعة من كبار الضباط بمن فيهم اللواء سهيل الحسن قائد قوات النمر، التي شُكلت كفرقة عسكرية كاملة تعمل كقوة هجومية، ومنح كافة الصلاحيات والتسهيلات لدرجة أنه كان في رتبة عقيد ورفض عام 2015 ترقيته إلى رتبة عميد، وأصر أن تكون الترقية إلى رتبة لواء، وكان له ما أراد، وكان حسب تصريحاته كما يبدو إنسانا غير سوي، مشوش الذهن حيث تستدعي تصريحاته السخرية والتندر، حتى أنه في إحدى اللقاءات التلفزيونية قدم تصريحات متلاحقة تدفع حقا إلى الضحك من ذلك: على سبيل المثال في إجابته عن سؤال حول عودة المطار للعمل وإقلاع الطائرات يقول: أنه يرى في النهار صورة بشار الأسد على سطح الشمس، وفي الليل يراه قمرا وجنوده هم النجوم من حوله، وعن المرتزقة يقول أن رجال القائد المفدى يلتقطون أعداءهم كما يلتقط الديك حبات القمح… إحدى أهم الفرق العسكرية الهجومية التي كانت المدللة والمرفهة والتي تحصل على ما تريد دائما… أين هي؟ خاصة أنها فرقة تشمل العديد من الألوية ومسلحة بالمدرعات ودبابات تي 90، لماذا لم تظهر في مواجهة الفصائل الإسلامية القادمة على سيارات البيك أب والدراجات النارية بأسلحة خفيفة ومتوسطة… نعم فاتكم القطار أيها الغافلون، تابعوا نشوة ما اغتنيتم به، والناس تدرك أنكم ستضطرون للتخلي عن قصوركم التي كلفت ملايين الدولارات ورواتبكم لا تستطيع حتى إن وفرتموها بكاملها، وبقيتم دون طعام لعشرين سنة لن تسدد كلفتها ولا تستطيع جمع ما تكلفه هذه القصور فمن أين لكم هذا؟ …
الآن استيقظتم!!! اسألوا الناس والحديث موجه إلى أزلام وفلول النظام وحسب، أين تلك القوى الهائلة التي مُنحت لكم، فرقة النمر إذن كانت فرقة نمر من ورق!
من هنا كانت تحركات الساحل زوبعة في فنجان لكنها زوبعة دامية ودموية، كما سنرى في الجزء الثاني.