صحافة وآراء

من صناديق الاقتراع إلى اجتثاث الفكر: عايدة توما تحذر من تحوّل إسرائيل إلى نظام استبدادي يسعى لإقصاء كل صوت معارض وخلق شرق أوسط جديد تحت راية الديانة الإبراهيمية

ريم حسن خليل

– إسرائيل على شفير مرحلة استبدادية قد تُطيح حتى بأبسط مظاهر الديمقراطية، حيث يسعى اليمين المتطرف لإسكات كل صوت معارض وفرض رؤيته على المنطقة بأكملها.

ما يجري في الداخل الإسرائيلي ليس مجرد انتخابات، بل بداية معركة على الهوية والفكر.


تحذّر عضو الكنيست الإسرائيلي عايدة توما من مرحلة سياسية خطيرة قد تشهدها إسرائيل في الانتخابات المقبلة، معتبرة أن أحد أخطر التحديات يتمثل في رغبة اليمين المتطرف في تحويل النظام القائم إلى نظام استبدادي يفتقر حتى إلى مظاهر الديمقراطية الشكلية التي ما زالت قائمة. وتقول توما إن اليمين الفاشي، بقيادة بنيامين نتنياهو، يسعى إلى البقاء في الحكم بأي ثمن، حتى لو تطلب الأمر تدمير أسس الديمقراطية الإسرائيلية نفسها. وتشير إلى أن اليمين، بعدما أدرك تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، بدأ يبحث عن طرق للالتفاف على العملية الانتخابية من الداخل، عبر تعديل القوانين، وإعادة هندسة النظام السياسي بما يضمن بقاءه في السلطة.

وتلفت توما إلى خطورة ما يسمى بسياسة “شطب المرشحين”، وهي أداة قانونية تُستخدم لإقصاء أفراد أو أحزاب بأكملها من خوض الانتخابات تحت ذرائع سياسية أو أيديولوجية. وتشير إلى أن هناك مساعٍ جادة لنقل صلاحية البت في هذه القضايا من المحكمة العليا إلى لجنة الانتخابات المؤلفة من ممثلين عن أحزاب يمينية متطرفة، ما يعني أن الخصم سيكون هو الحكم. وبهذا، يصبح استبعاد المرشحين العرب أو الأحزاب التي تمثل الفلسطينيين في الداخل أمرًا ممكنًا بقرار سياسي بحت، في محاولة منظمة لإسكات الصوت العربي الفلسطيني الذي يشكّل حجر عثرة أمام هيمنة اليمين على المشهد السياسي.

وترى توما أن الصوت العربي الفلسطيني داخل إسرائيل قادر على ترجيح الكفة بين معسكر نتنياهو واليمين المتطرف من جهة، والمعسكر الذي يصف نفسه بالليبرالي من جهة أخرى. فكلما ارتفعت نسبة المشاركة في التصويت لدى الجماهير العربية الفلسطينية، تقلّصت فرص اليمين في الحفاظ على الحكم. لكنها في الوقت ذاته تحذر من أن الانتخابات القادمة قد تشهد حملات تحريضية عنيفة ضد العرب، وربما أعمال ترهيب وعنف مقصودة، تهدف إلى منعهم من التوجه إلى صناديق الاقتراع وتغيير نتيجة الانتخابات.

هذا التحذير، وإن بدا داخلياً في ظاهره، إلا أنه يعكس مساراً أوسع يجري على مستوى المنطقة بأكملها، حيث يتكرر مشهد “الاجتثاث” السياسي والفكري تحت شعارات جديدة. فكما شهد العراق بعد عام 2003 سياسة “اجتثاث البعث”، التي تحولت من عملية لمكافحة الفكر الشمولي إلى حملة لإقصاء كل من يعارض المشروع السياسي الجديد، يبدو أن المنطقة تعيش اليوم نسخة حديثة من تلك التجربة: اجتثاث كل فكر أو حركة أو موقف يعارض المنظومة اليمينية الصهيونية المتطرفة. لم تعد المعركة تُدار بالسلاح فقط، بل عبر أدوات القانون والإعلام والسيطرة على الخطاب العام، لتجريم كل صوت حر أو موقف مقاوم.

ومن اللافت أن هذا النمط من الإقصاء لا يقتصر على الداخل الإسرائيلي، بل يمتد إلى الإقليم بأكمله. فحركات المقاومة، مثل حزب الله وحماس، تحوّلت في الخطاب الغربي والإسرائيلي إلى رموز “للشر المطلق”، لا لشيء سوى لأنها ترفض الخضوع للمشروع الصهيوني. وبهذا الشكل، يجري تبرير حصارها، وتشويه صورتها، وتجريم أي تعاطف شعبي معها، في سياقٍ أوسع يرمي إلى تجريد الشعوب من حقها في المقاومة، وتحويل كل معارضة للهيمنة الصهيونية إلى تهمة.

ومع مرور الوقت، يتضح أن هذا الاجتثاث لم يعد سياسيًا فحسب، بل بات فكريًا وثقافيًا أيضًا. فالهجمة الجديدة تسعى إلى إعادة تشكيل هوية المنطقة من جذورها، عبر طرح ما يُعرف بـ “الديانة الإبراهيمية” كمشروع روحي يوحّد الديانات السماوية الثلاث تحت شعار التعايش والسلام. لكن خلف هذا الخطاب الناعم، تكمن محاولة منهجية لتذويب الخصوصيات الدينية، وإعادة تعريف الانتماء بما يخدم مشروع السيطرة الإسرائيلية والغربية. فالديانة الإبراهيمية لا تُقدَّم كمجرد مبادرة دينية، بل كغطاء ثقافي وسياسي لخلق شرق أوسط جديد، تُدار شعوبه تحت هوية هجينة تُضعف الانتماء الإسلامي والعربي وتفرغه من معناه التاريخي والروحي.

إن ما يجري ليس إلا شكلاً جديدًا من “الهندسة الفكرية” التي تُمارس على المجتمعات العربية والإسلامية، حيث تُعاد صياغة المفاهيم الدينية والسياسية بما يتماشى مع خطاب التطبيع والتسليم بالأمر الواقع. فالتطبيع لم يعد اتفاقيات سياسية فحسب، بل تحول إلى مشروع ثقافي عميق يسعى لتطبيع الوعي نفسه، ولخلق أجيال تتصالح مع فكرة تفوق إسرائيل وشرعية هيمنتها. وهنا يصبح التحذير الذي أطلقته عايدة توما حول شطب المرشحين العرب تجلياً محلياً لمشروع أكبر يسعى إلى شطب الفكر العربي المقاوم بأسره.

إن الديمقراطية الإسرائيلية، التي لطالما قُدّمت في الغرب كنموذج في الشرق الأوسط، تبدو اليوم في طريقها إلى التحول إلى واجهة شكلية تخفي وراءها سلطة يمينية مطلقة. فحين تُقصى الأصوات المعارضة باسم “الأمن القومي”، ويُمنع العرب من الترشح باسم “ولاء الدولة اليهودية”، وتُجرّم المقاومة باسم “مكافحة الإرهاب”، يصبح واضحاً أن ما يجري ليس سوى إعادة إنتاج لنظام استبدادي جديد بغطاء قانوني وديني. هذا النظام لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، بل يسعى إلى فرض رؤية أحادية على المنطقة بأكملها، رؤية تذيب الحدود بين السياسة والدين لتجعل من “الإبراهيمية” عقيدة سياسية تبرّر السيطرة وتغلفها بشعارات السلام والوحدة.

تحذيرات توما إذاً لا تخص الانتخابات فحسب، بل تكشف تحوّلاً جوهرياً في بنية التفكير الإسرائيلي، وتلمّح إلى أن ما يُحضّر له في المنطقة يتجاوز مجرد بقاء حكومة هنا أو سقوط أخرى. فالمعركة المقبلة لن تُحسم في صناديق الاقتراع فقط، بل في ميدان الوعي، حيث تسعى القوى اليمينية والصهيونية إلى اجتثاث كل فكر حر، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط على مقاسها، تحت راية “الديانة الإبراهيمية” التي تخفي خلف وعودها الملساء مشروعاً للهيمنة الثقافية والسياسية وإلغاء الآخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى