صحافة وآراء

سكان غزة شعب يفوق الأسطورة بصموده – بقلم د. أيمن أبو الشعر

لم يسأل أحد حتى الآن عن الطفلة البسّامة "سمية"، فقد كان والدها موجودا حين أحضر زوجته إلى المشفى، لكنه لم يعد يظهر، ويُرجح أنّه لقي حتفه أيضا نتيجة القصف اليومي... سمية تنتظر نبيلا يمكن أن يكمل الأسطورة، فقد تحسنت صحتها تماما، ولكن أحدا لم يأت بعد ليأخذها! إنها تفتح عينيها كل صباح بابتسامة تؤكد أن هذا الشعب لن يموت، وتنظر نحو الباب متوقعة – كما يبدو- أن يظهر هذا الإنسان النبيل!

قتل الإسرائيليون الأم، لكن “سُميّة” خرجت حيةً من رحم أمها كرمزٍ لحتمية الانتصار، والنبيل الذي سيتبناها رمز يوحي بأن مساعدة الأشقاء العرب ستنقذ غزة

“ليس من رأى كمن سمعا”، هذا المثل الشعبي القريب من الحكمة، يشير في الحالات الاستثنائية القاهرة إلى أن الوصف الكلامي يعجز عن نقل الصورة الحقيقية لهذه المأساة أو تلك، وإن أخذنا غزة نموذجا يغدو حتى المثل شحيحا لأن ما جرى ويجري خلال الأشهر الخمس الأخيرة يعجز حتى الخيال عن توصيفه، مطلق القسوة والعنف وأشنع أنواع البطش والتجويع والحصار، وقصف وحشي مستمر برا وجوا وبحرا على الأحياء السكنية يطال حتى المشافي ودور العبادة، وبالمقابل شعب صامد كالجبال، ومتحد كوجه المحال، يقف شامخا في وجه كل هذه الممارسات الجهنمية المسعورة… وهنا تكمن الأسطورة!

  • أكبر كثافة سكانية في التاريخ والجغرافيا

الأساليب القذرة التي تستخدمها إسرائيل من قصف وتجويع وحصار، ومنع للغذاء والماء والدواء -بتأييد من البيت الأبيض الوالغ في الدم، والاتحاد الأوروبي الأظلم- تمرغ شرف مرتكبيها بالوحل إن بقي عندهم شرف، ولا تهين الشعب الذي يزداد سموا بصموده ما يذكر -مع مفارقة التشبيه وأهمية القول- بما قالته شجرة الدر حين جاءت جواري ضرّتها لتقتلها بالقباقيب وغدا مثلا: “السلاح القذر يذل القاتل لا الضحية”.. نعم ممارسات إسرائيل يجعلها غارقة بالذل والمهانة والوضاع مع مؤيديها…

الأساليب القذرة مستمرة منذ زمن طويل، بل وغدت أشد قسوة وعنفا مع تغير الظروف الحياتية على الأرض، فقد نزح السكان من الشمال والوسط نتيجة القصف الإسرائيلي على الأحياء السكنية، وباتت نسبة الكثافة السكانية اسطورية من حيث المفارقة، فمتوسط الكثافة السكانية في الكرة الأرضية أي نسبة السكان للمساحة تعادل 15 شخصا للكيلو متر المربع، وتتفاوت نسبة الكثافة حسب الدول ففي روسيا مثلا 8 أشخاص للكيلو متر المربع، وفي اليابان وهي من أكثر دول العالم كثافة سكانية 342 نسمة للكيلو متر المربع، في حين تصل الكثافة السكانية في جنوب غزة ورفح إلى رقم اسطوري فعلا، وبعملية حسابية بسيطة نجد أن جنوب قطاع غزة وخاصة رفح وما حولها هو أعلى كثافة خيالية وأسطورية على الكوكب الأرضي، وتبدو شبه مستحيلة حيث تؤكد بعض المعطيات أن الكثافة الفعلية بعد تمركز النازحين هي قرابة 20000 نسمة للكليلو متر المربع الواحد، ومع ذلك يعيش الناس أصدقاء وأحبابا يجمعهم مصاب واحد، ويحولون المثل الشعبي الذي يقال للتعبير عن مطلق المبالغة: “محل الضِيق يسعُ ألفَ صديق”.

  •  أولى بي أن أشرب من جرحي

نأتي إلى الحصار والتجويع وهنا أيضا يثبت الشعب في غزة أنه يتجاوز الأسطورة، فقد أتلف القصف الحقول، وخرَّب مستودعات المؤن، ومن البديهي ألا يحمل النازحون معهم طعاما وماء لأكثر من يومين، والحرب الإسرائيلية على غزة دخلت شهرها السادس، وتشير معظم المعطيات أن أعدادا كبيرة من الغزيين قد ماتوا جوعا، ناهيك عن فتح القوات الإسرائيلية النار الحي على المتجمعين للحصول على المساعدات الإنسانية فيما يسمى بمجزرة الطحين حيث سقط المئات بين قتيل وجريح، وهناك قصص حقيقية تشير إلى أن بعض السيدات كانت تطعم أطفالها من المواد الغذائية الضنينة جدا ولا يأكلن حتى أُصبن بالهزال، ومع ذلك كن يقدمن حتى كسرة الخبز لأطفالهن ولا يأكلن حتى مات بعضهن، ما يذكر بأسطورة البجع حيث تقوم البجعة إن جاعت فراخها بضرب صدرها بمنقارها فتجرحه وتطعمهم من لحمها، أو تنجيهم بدمها.

صحيح أن بعض الدول قدمت وتقدم مشكورة بعض المساعدات، ولكن الحديث يجري عن أكثر من مليوني إنسان، وما يرمى لهم من الجو هو وجبات خفيفة لأقل من عشرة بالمئة من المحتاجين، ولم يخل الأمر من وفيات نتيجة سقوط بعض علب المساعدات التي لم تنفتح مظلاتها فوق الناس. ثم إن دخول الولايات المتحدة على خط المساعدات يثير الإشمئزاز حقا، على مبدأ مثلنا الشعبي “يقتل القتيل ويمشي في جنازته” هذا ناهيك عن الشكوك المبرَّرة بنوايا إقامة رصيف عائم مؤقت؟؟؟ ولماذا ترحب إسرائيل بالميناء العائم مع القوات الأمريكية، هل حقا تود أن تصل المساعدات للفلسطينيين، لماذا لا تضغط واشنطن على تل أبيب لفتح المعابر، وإيصال المساعدات برا، واستخدام ميناء غزة الحالي لرسو سفن المساعدات خاصة إن علمنا أن بناء هذا الميناء المؤقت حسب رايدر المتحدث باسم البنتاغون يحتاج إلى 60 يوما وسيقوم بإنشائه 1000 عسكري أمريكي؟ ألن يعمل هؤلاء بدافع من جيناتهم الاستعمارية لصالح إسرائيل سواء في عمليات التجسس، والبحث عن مخابئ الأسرى الإسرائيليين، أو لفتح المجال لترحيل السكان الذين وصلت حالتهم إلى درجة مأساوية باسم العمل الإنساني؟ أشعر أن لسان حال الفلسطينيين تجاه المساعدة الأمريكية يردد أحد مقاطع قصيدة الصدى: ” أولى بي أن أشرب من جرحي لا أن أطلب قطرة ماء من جلادي، فالبسمة في وجه السوط بداية تسليم وصكوك هوان…”

  •  سُميّة في انتظار من يتبناها

نصل أخيرا إلى الجانب الصحي، وهنا أيضا يُثبت الشعب في غزة أنه أكبر من الأسطورة، أكثر من مئة ألف بين شهيد وجريح، ترافق ذلك مع قصف المشافي التي خرج معظمها من الخدمة، وقتل وأصيب معظم الكوادر الطبية، وفُقدت الأدوية والضمادات تقريبا حتى أن بعض العمليات الجراحية الضرورية تجرى دون تخدير، وما زال هذا الشعب صامدا كالجبابرة، أحرق مسبقا كل المناديل البيضاء كي لا يفكر أحد برفع راية الاستسلام، فبدت كأنها سفن طارق بن زياد، سفن الكرامة وسمو النفوس الثورية. ومما لا يجوز نسيانه أن الكثير من النساء قد أجهضن في هذه الظروف العصيبة نتيجة الهلع والإرهاق لتأمين القوت، أو تمت عملية توليدهم بأوضاع بالغة الصعوبة وغير صحية نهائيا، ومات قسم كبير من أطفال الولادات الحديثة نتيجة سوء التغذية، فلكي تُرضع الأم لا بد أن تأكل جيدا، وفي كثير من الحالات ليس هناك أي طعام، وحتى الحصول على الماء النقي يتم بشق الأنفس.

لكن حادثة جرت أواخر ديسمبر الفائت تحمل طابعا رمزيا بالغ الدلالة لتكتمل الأسطورة، ففي كثير من الأعمال الأدبية حيث تحل الفاجعة ويموت البطل تتم ولادة طفل كرمز لمستقبل مشرق، مثلا كما في نهاية قصة جينكيز أيتماتوف “عندما تتهاوى الجبال” حيث يُقتل البطل الإيجابي “أرسين” ويمضي نازفا ليستند إلى النمر النازف أيضا في المغارة، ولكن حبيبته “أليسا” تعتبر استمرار حياتها وفاء لأرسين لكي تلد طفله كرمز لانتصار المستقبل… وفي 23 من ديسمبر كانون أول العام الفائت نُقلت هنادي أبو عمشة، وهي حامل في شهرها الأخير إلى مشفى “شهداء الأقصى” نتيجة إصابتها بجراح بليغة بسبب القصف الإسرائيلي” وفارقت الحياة لكن الأطباء أجروا عملية قيصرية لتبصر الطفلة النور، ورغم الصعوبات نتيجة فقدانها للأكسجين وهي في رحم أمها المتوفاة، إلا أنها تحسنت بعد أن أجروا لها عملية انعاش للقلب والرئتين، قاومت الطفلة لتؤكد أنها أحد رموز الشعب الفلسطيني العظيم الذي يولد كالعنقاء من رماد الموت، ومنحها الأطباء اسم زميلتهم التي استشهدت أثناء القصف الإسرائيلي “سُميّة”…

لم يسأل أحد حتى الآن عن الطفلة البسّامة “سمية”، فقد كان والدها موجودا حين أحضر زوجته إلى المشفى، لكنه لم يعد يظهر، ويُرجح أنّه لقي حتفه أيضا نتيجة القصف اليومي… سمية تنتظر نبيلا يمكن أن يكمل الأسطورة، فقد تحسنت صحتها تماما، ولكن أحدا لم يأت بعد ليأخذها! إنها تفتح عينيها كل صباح بابتسامة تؤكد أن هذا الشعب لن يموت، وتنظر نحو الباب متوقعة – كما يبدو- أن يظهر هذا الإنسان النبيل!

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى