ردّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونفّذت وعيدها تجاه الغطرسة “الإسرائيلية” فكانت ساعات ليل الثالث عشر من نيسان ساعات معدودة من عمر هذا الكيان الغاصب للحق والأرض والمنتهي الصلاحية لمصنّعيه، وبين مشكك بالهجوم وبين ممجّد له صعدت إيران إلى مصافِ القوى الإقليمية باحتراف العارف وذكاء البارع في حياكة القرارات والأفعال الاستراتيجية التي تبقى بمفاعيلها لعقود كـحياكة السجاد الذي تشتهر به حاكت ردّها بحنكة ودهاء فجعلت من المتلقي لردّها وداعميه في حيرة من أمرهم يستجدون الدعم من جهة ويتوعدون بالرد من جهة ثانية ويقللون من حجم الخسائر من جهة ثالثة في محاولة لاحتواء الموقف الذي سجلت فيه إيران هدفاً استراتيجياً لا يمكن لأي قارئ للسياسة والتاريخ أن يوارب عنه بكونه هدف مركّب حققت من خلاله نصراً مركباً ِونتائج خماسية الأبعاد (عسكرية – اقتصادية – نفسية – معنوية – أمنية ) بدءاً من تدمير للغطرسة الإسرائيلية وإسقاط للهيبة الأمنية الإسرائيلية وتكبيدها خسائر اقتصادية فاقت المليار دولار وضرب عمق أمان مستوطنيها وإثارة الذعر وكسب الحرب النفسية والإعلامية وتحطيم كل معنويات مستطونيها حتى ضاق بهم مطارهم وملاجئهم.
وفي المحصلة فرضت إيران نفسها كدولة عظمى كما هي في حقيقة الأمور ووقائعها، كوننا نتكلم عن وريثة الإمبراطورية الفارسية فالحرب هي حرب حضارات وصراع إمبراطوريات لاستعادة الأمجاد وتصحيح أخطاء التاريخ التي نتج عنها هذا الكيان المحتل في منطقتنا مع صانعيه والذي يعلم جيداً بدنو أجله..
لم تتدخل الولايات المتحدة كونها تعلم جيداً بأن الرد الإيراني مشروع من جهة وأن قواعدها للدفاع عن العدو الصهيوني ستكون بنك أهداف سواء في الكويت أو قطر أو أي مكان تنطلق منه، أضف إلى ذلك الرسالة التي وصلت إلى واشنطن من موسكو وبكين (قبيل الضربة الإيرانية) بأنّ أي تدخل مباشر منها ضدّ طهران فإنّهما ستدخلان مباشرة مع طهران، وهذا ما يؤكد أنّ العالم بات منقسم لقسمين: مشرقي بقيادة الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران ومحور المقاومة، وغربي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا والناتو وإسرائيل.
إذاً هي حرب وستتسع ولا نستغرب إن وجدنا الأسلحة المتطورة التي تخشاها إسرائيل بيد حماس وفصائل المقاومة حتى أننا لا نستبعد دخول دمشق بقوة وإخراج ما كان مخفي منذ سنين رغم علمنا المسبق وتأكيدنا أنّ سورية ظهر المقاومة وسندها وأنّ كل الجبهات مجتمعة هي في دمشق..
أو كما قال عنها البعض هي “مسرحية” ولكنها بدأت وفق فصول فكان الفصل الأول جرً السفينة الإسرائيلية قرب مضيق هرمز إلى المياه الإقليمية الإيرانية فكان عنوان الفصل الأول المضيق خط أحمر، وسبقها فصل تمهيدي طالبت خلاله إيران مجلس الأمن والأمم المتحدة بإدانة العدوان الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق واعتباره انتهاك لنظام روما الدبلوماسي ولكن لم تجد من يصغي وسقط الجميع مرة جديدة في امتحان القانون الدولي، فكانت المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة هي السبيل للرد، وكان الفصل الثاني من “المسرحية” بإرسال الطائرات المسيرة التي انهكت الكيان وداعميه لساعات مع العلم أنّ كل طائرة مسيرة أفقدت الكيان حوالي 150 ألف دولار لاعتراضها فكانت الكلفة الإجمالية تفوق المليار دولار والجدير بالذكر أنّ هذه المسيرات هي من الجيل القديم (أي هناك الأحدث) وكانت طعماً لاستنزاف القبة الحديدية والمقلاع واستنزفتها فعلاً، ناهيك عن حالة الذعر، ليبدأ الفصل الثالث بإطلاق الصواريخ البالستية المتوسطة المدى والتي وصلت أهدافها بدقة وحتى أنها نالت من القاعدة العسكرية التي انطلقت منها الصواريخ واستهدفت القنصلية في دمشق وفشل منظومة باتريوت التي تحمي هذه القاعدة من التصدي لهذه الصواريخ، رغم التعتيم الذي يقول به الكيان ولطالما كان يتحفظ على خسائره في كل المواقع وخصوصاً الحرب الاستخباراتية التي أحد أجزاءها أربيل غير أن رد فعله على أربيل فضح بشكل صارخ الأسرار ليعلن أن أربيل ابتلعت الكثير من كوادره القيادية.
كما رافق الرد الإيراني، تحذير مسبق لأي دولة تقوم باعتراض تلك الصواريخ وربما هذا ما دفع قطر والكويت على سبيل المثال لإغلاق مجالهما الجوي خيفة من أن يكونا فيما بعد بنك أهداف لاحتوائهما قواعد أميركية ناهيك عن الاستنفار الأميركي في كامل المنطقة واختتمت “المسرحية” التي أرادوا أن يسموها بهذا الأسم بفرض قواعد جديدة ومرحلة جديدة يبنى عليها، وانتهت بكلمة من البعثة الدبلوماسية الإيرانية بالقول الرد انتهى وأي تصعيد سيلقى الرد الأقسى، فرسمت بنهاية ردها كما رسمت في بدايته شرق أوسط جديد يملي على الولايات المتحدة وحلفائها شروطه ولا يملى عليه فالقوة هي القول الفصل..
ولو عدنا إلى الهجوم على القنصلية بدمشق فكان رد فعل على استهداف مقر الموساد في أربيل وكان تاريخ ١٥ كانون الثاني 2024 تاريخاً مجيداً حيث استهدف الحرس الثوري الإيراني القاعدة الأمنية للموساد “الإسرائيلي” في أربيل ودمرها كلياً وهي تتبع للوحدة ٨٢٠٠ والتي خصصت لعمليات تجسسية داخل إيران والشرق الأدنى وقد أنجزوا عمليات أمنية عدة، واغتيالات في إيران والعراق سورية ولبنان، فكانت ضربة موجعة وصاعقة للموساد وللوحدة 8200 وأعلن الحرس الثوري مسؤوليته عن العملية التي انطلقت صواريخها من سورية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الوحدة 8200 أو التي تعرف باسم وحدة SIGINT ذات أهمية لدى “إسرائيل” باعتبارها وحدة الإستخبارات المسؤولة عن التجسس الإلكتروني عن طريق جمع الإشارة وفك الشيفرة، كما أنها المسؤولة عن قيادة الحرب الإلكترونية في جيش الاحتلال ولديها غرفة عمليات مع وحدة تنفيذ المهام في الموساد.. وتشير التسريبات إلى أنّ العدو الاسرائيلي قد أبلغ روسيا بأن استهداف القنصلية في دمشق كان رداً على استهداف أربيل.
كما تقول التسريبات أن الأنظمة في الخليج العربي خاصة الإمارات العربية بصدد إعادة التفكير بملف التطبيع مع “إسرائيل” (إذا لم تشتعل الحرب حكماً وتنهي إسرائيل وتنهي مفاعيل ملفاتها التطبيعية في المنطقة) بعد تعرض الإمارات لضغوطات من عدة دول أجنبية مالكة لرؤوس أموال داخل البنوك الإماراتية وشركات نفطية وثروات باطنية في أفريقيا وشركات النقل البحري وغيرها، إضافة إلى تغلغل الموساد في داخلها ولم يعد أحد يريد أن تكون بلاده مرتعاً للموساد وهدفاً لتصفية الحسابات، ناهيك عن الضغوط المتمثلة بالرأي العام بعد المجازر المرتكبة في غزة وبعد فشل هذا الكيان على الأصعدة كافة أمام قوة فعل المقاومة في فلسطين وفي جبهات الإسناد والتي عرّت “إسرائيل” وأكدت بعدوانها على غزة بأنها ليس فقط لا يمكنها أن تندمج مع دول المنطقة بل لا يمكن اندماجها مع المجتمع الدولي باعتبارها مجموعة عصابات إرهابية متطرفة لا تخضع للقوانين الدولية ولا حتى للأعراف الدولية..
أما نتنياهو الذي يسعى لرد مغامر فإنّ رده حكماً سيشعل المنطقة برمتها ليكون كيانه ساحة الحرب في حين أنّ واشنطن لا تقوى على مثل هذه الحرب فهي منهكة تماماً من تايوان وأوكرانيا ومن الداخل فباتت قوتها مع ذراعها الناتوي من الماضي، وبات لزاماً على كل من حلفائها أن (يقبع شوكه بيده) وأي جولة في مجلس الأمن ضدّ أي قرار يدين إيران ستجد الفيتو المزدوج، فنحن هنا نتكلم عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي تمتلك باع طويل في الحنكة السياسية وطول البال الذي تحيك به السجاد الأول عالمياً وهي حاكت ردّها اليوم بهدوء متأصّل في مورثاتها.
وربما سيكون رد نتنياهو بتفريغ غضبه وفشله في رفح وسيكون المسمار الأخير في نعش النظام الإسرائيلي إذا ما قام بذلك، فخرق الجدار داخل فلسطين المحتلة في السابع من أكتوبر 2023 وتوقف أجهزة الاستشعار والمراقبة بتلك اللحظات لم يكن محض صدفة كما لم يكن محض صدفة الضربة الإيرانية بالأمس واختراق أمن إسرائيل في العمق، فلقد اتخذ القرار بنهاية إسرائيل وإعادة هيكلتها وهي اليوم تعد أيامها الأخيرة، فضربة القنصلية أتت بالفرج على كامل المحور ومنحت إيران الحجة الدامغة للدخول إلى الحرب بشكل نظامي وفق نظام روما ولن تقع أميركا في فخ نتنياهو مجدداً كما وقعت في اليمن فرغم أنّنها القائد الفعلي للحرب لكنها باتت تريد سلامة رأسها حالياً في هذه المواجهة.
قلناها سابقاً ونعيد “انتقل ميزان القوى من الغرب باتجاه الشرق” منتظرين فقط توزيع المكاسب والصلاحيات.. نعم إنها “مسرحية” نصر على مسرح الحياة المفعمة بالعز..
- سماهر عبدو الخطيب- كاتبة صحافية سورية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية