صحافة وآراء

تتحرك الأمواج البحرية حين لا تتحرك الأفواج البشرية

بقلم د. أيمن أبو الشعر


• قوات أمريكية تساهم مع القوات الإسرائيلية في التضحية ب 600 فلسطيني بين قتيل وجريح لاستعادة 4 أسرى إسرائيليين في النصيرات

المجزرة الجديدة
الأرقام رهيبة تشبه بياناتها صفحات النعوة، ولكنها نعوات تُعلَّق على جدار التاريخ، كونها قوائم مفتوحة يتزايد العدد فيها يوميا، وأحيانا بشكل ساعي، ولو قمنا بعملية حسابية لمعرفة نسبة قتل وجرح الفلسطينيين في غزة من خلال حساب الزمن وعدد الضحايا في الأشهر الثمانية الفائتة منذ بدأت إسرائيل حربها على قطاع غزة، لتبين معنا أن أكثر من عشرين فلسطينيا يسقطون كل ساعة بين شهيد وجريح، هذا غير المفقودين تحت الأنقاض.
المجزرة الأخيرة ليست استثناء ولكنها تؤكد أمرين رئيسيين الأول الطابع الإجرامي الوحشي غير المسبوق لإسرائيل -والمقصود بغير المسبوق هو المقارنة مع المجازر التي ارتكبها غير الإسرائيليين بما في ذلك النازيين والفاشيين، فقد سبقتهما إسرائيل بمراحل- والآخر طابع المكر الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة الظهور أمام العالم بصفة المنقذ الذي يريد أن يقدم المساعدات للشعب المقهور في غزة، وسنتناول هذا الجانب بعد قليل.
إذن وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم قامت القوات الإسرائيلية مع عناصر الشاباك والوحدات الأمنية الخاصة بعملية عسكرية داخل مخيم النصيرات في منطقتين منفصلتين أي بين السكان المدنيين، وحسب شهود عيان كثر كانت القوات الإسرائيلية كبيرة جدا، وكان إطلاق النار كثيفا جدا كجبهة حقيقية مع إطلاق القذائف المتنوعة بمشاركة قوات من سلاح الجو والمدفعية والدبابات، مع غارات بحرية ما أسفر عن استشهاد 210 فلسطينيين، وإصابة أكثر من 400 ، ومن الواضح أن عدد الشهداء سيرتفع في الأيام القليلة القادمة نتيجة وجود حالات حرجة، هذا عدا عن الدمار والمدفونين تحت الأنقاض من جديد، فقد استخدمت الطائرات والمدفعية.

المفارقة العنصرية
حتى بلغة الأرقام من جديد تبدو إسرائيل قابعة على مزابل الإجرام معتبرة إياها عرشا، ومتباهية ببقع الدم الفلسطيني على ثياب جنودها معتبرة إياها أوسمة، هكذا هو ديدن الحقراء على مستوى الأفراد والدول، من هنا تفتخر إسرائيل بأنها استطاعت استعادة أربعة أسرى إسرائيليين أحياء، وهنا تكمن مفارقة هائلة، نعم أحياء لأن الفلسطينيين ليسوا مجرمين، بل وفي حوارات سابقة مع الأسرى أكدوا أنهم تلقوا معاملة جيدة، تفتخر إسرائيل إذن بأنها تمكنت من استعادة أربعة أسرى، وفي سبيل تحقيق ذلك قتلت وجرحت بدم بارد أكثر من 600 فلسطيني، أي بكل بساطة وبحساب الأرقام والنسب تتشكل المفارقة بأن إسرائيل قتلت وجرحت في هذه المجزرة 150 فلسطينيا لقاء استعادة كل أسير، هذه المفارقة الدموية اعتبرها “نتن ياهو” بكل غطرسة أنها عملية رائعة ستسجل في كتب التاريخ.
وهذا الأمر ليس جديدا على إسرائيل، خاصة مع تصاعد التطرف اليميني المدعوم من الشارع الإسرائيلي الذي باتت غالبيته عنصرية، الأمر الذي تشهد عليه مسيرة الأعلام الإسرائيلية منذ أيام، والتي شارك فيها الوزير الإرهابي المتطرف ايتمار بن غفير مشجع الروح الانتقامية ورفض السلم ، حيث كانت الهتافات الرئيسية في هذه التظاهرة باعتراف صحيفة “هاآرتس” عنصرية حاقدة، ويقول بعض الشهود أن المتظاهرين كانوا يصرخون بحقد واضح: “الموت للعرب، واحرقوا قراهم، إما أن تموتوا أو ترحلوا…” ولم يخل الأمر حتى من الاعتداء على الصحفيين.

الوسيط القاتل
الجانب الآخر المريع في هذا المجال هو مشاركة القوات الأمريكية في عملية النصيرات، بمعنى أن القوات الأمريكية شاركت في قتل المئات من الفلسطينيين، وربما كان هناك تنافس بين الجنود الإسرائيليين والأمريكيين من منهم سيقتل أكثر من الفلسطينيين، والأمر ليس إشاعة لكي تتم الإساءة إلى سمعة أمريكا، فقتل الفلسطينيين بالنسبة للولايات المتحدة ليس أمرا سيئا، بل هو مدعاة للفخر حتى أن الصحافة الأمريكية ذاتها أشارت بوضوح إلى مشاركة القوات الأمريكية في العملية العسكرية الإسرائيلية، وذلك حسب ما ذكرت شبكة “سي إن إن” الأمريكية، وكذلك موقع اكسيوس الأمريكي، وحسب الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أبو عبيدة، فإن العملية أسفرت أيضا عن قتل بعض الأسرى ، لكن منطق الأمريكيين والإسرائيليين لا يعتبر ذلك هاما، فهو أمر هادئ تغطيه الدعاية والصخب الذي تحدثه عملية استعادة الأسرى الأربعة.
التاريخ الدموي للقوات الأمريكية مشهود له بالتميز في حرب فيتنام، وإبادة قرى وبلدات بكاملها، فكيف يمكن أن تهتز شعرة في ذقن السياسيين الأمريكيين الذين يعطون الضوء الأخضر للقوات الأمريكية لكي تشارك في عملية الجيش الإسرائيلي، ويقال بأن الوحوش إن ذاقت طعم الدم البشري فإنها ستبحث دائما عن فرائسها بين البشر، فكيف إن ذاقت الوحوش الأمريكية دماء مختلف الشعوب على مر تاريخا العدواني.

غباء أم تغابي
بعد كل هذا التاريخ المريع والدموي لأمريكا وإسرائيل يطرح السؤال نفسه، هل يعقل أن النخبة المُطبِّعة من العربان لا تدرك هذه الطبيعة؟ هل يعقل هذا؟ لا طبعا، والفرق كبير بين الذي ينسى والذي يتناسى، وبين الغبي حقا والذي يتغابى، الذي يسيطر بتغابيه ويسود قومه بهذا التغابي كما يقول أبو تمام:
ليسَ الغبيُّ بسيّدٍ في قومِهِ لكنَّ سيِّدَ قومهِ المُتغابي
صحيح أنه ينطلق هنا من أن التغابي نوع من الذكاء، لكنه يحمل أحيانا صفة المكر كأحقر المشاعر الوصولية ولهذا أتبعه ببيت يقول:
قد ذَلَّ شيطانُ النفاقِ وأخفتت بيضُ السيوفِ زئيرُ أسدِ الغابِ
نعم إنه النفاق إذن الذي يمكن أن يصل إلى إرعاب الذين يجب أن تكون لهم السطوة والسيطرة.
هناك مفارقة هائلة في قبول القتلة كأصدقاء وحبايب، وتهميش المناضلين المقاتلين الحقيقيين في سبيل الوطن والكرامة، وكأنهم نكرات، بل وتمرير قتلهم الشنيع والإبادة الجماعية وكأنها تجئ بسببهم، بمعنى لماذا رفعوا رؤوسهم، بل أحيانا تصل إلى ما هو أنكى من ذلك، لماذا صرخوا حين ضربوهم وعذبوهم وقتلوا ذويهم وأبناءهم، أيتنبه المسؤولون بصراخكم عما يجري لكم…ألا يذكر ذلك بصرخة مظفر النواب ” أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة”؟ وأنا واثق بأن مجزرة النصيرات ستكون نقطة علام تاريخية، وستذكر الأحداث انطاقا منها ما حدث قبل النصيرات وما حدث بعدها.
وبهذا المعنى يمكن فهم رفض حتى مظاهر الطبيعة لهذا الاستغباء الحقير من الإدارة الأمريكية، حتى أن أمواج البحر قرب غزة حين بدأت واشنطن بلعبتها وتمثيليتها الحقيرة في تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة عبر رصيف عائم، تحيلوا رصيف عائم يخدمه 1000 عسكري أمريكي، عندها علت وزمجرت وهاجت الأمواج رافضة هذه المكيدة التي كنا قد وصفناها قبل حين بأنها تشابه خدعة حصان طروادة، وأن الهدف من الرصيف عبر تقديم المساعدات الإنسانية هو الوصول إلى الأسرى الإسرائيليين لدى حماس واستعادتهم بالقوة، وقد أثبت الأمريكيون صحة توقعاتنا في مشاركتهم في قتل الفلسطينيين في عملية النصيرات، لكن بحر غزة رفض رصيفهم العائم وأطاح به، فالبحر مناح الخصوبة ولا يستزلم لأحد، ولا يستطيع أي ماكر أو متغابٍ الضحك عليه، لقد أدرك أن الرصيف العائم حتى ليس حصان طروادة، فهو أسفل من أن يشابه الأسطورة، إنه أشبه بحزمة حشائش ليقود أغبياء العالم لتصديق دعاياته، ولهذا إن سألتم لماذا تثور الأمواج وحكام العرب نيام، ولا يحشدون الكتائب والأفواج لنصرة أهلهم في غزة؟ سيجيبكم الزمن تتحرك الأمواج غاضبة مستغربة حين لا تتحرك الأفواج لا عاربة ولا مستعربة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى