قالوا في “البيروقراطية” أكثر مما قاله مالك في الخمر. فالكلّ أدلى، وما زال، بدلوه في هذا “العدو” اللدود، غير الواضح المعالم، الهلامي، الزئبقي، الموجود في كلّ مكان وغير الموجود في أي مكان. ومؤكد أن هذا “الدلو”، في وطننا العربي، ينضح بشتى السوائل المختلفة في الكثافة والتركيب والحجم، وحتى اللون والطعم والرائحة، وقد لا ينضح شيئاً.
المواطن العربي بات يرى في “البيروقراطية” أساس البلاء ورأس الأعداء، وسبب بؤسه المتزايد، وفقره المتوحش، والفساد المستأصل حتى النخاع، والمحسوبية والواسطة، والرشوة والكسب غير المشروع، وخلافه من ظواهر تفترس العدالة وتكافؤ الفرص، وتنال من الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع وحتى أبسط حقوق المواطنة والأنسنة!
ويبدو أن “البيروقراطية” قد غدت “الشماعة” المثلى، بل و”قميص عثمان”، حيث يعلّق الكلّ إخفاقاته وتجاوزاته وحتى مبررات مسلكياته الخاطئة على مشجب شماعة البيروقراطية. وحيث يتمسح الكلّ بقميص البيروقراطية الذي بات خليطاً عجيباً من شتى الألوان. لدرجة أن البيروقراطيين والمكتوين بمسلكياتهم من عامة المواطنين على حدّ سواء، باتوا يبررون مختلف سلوكهم التكيّفي الشاذ بنصوص البيروقراطية، تلك النصوص التي تجعل من كليهما (بيروقراطيين ومواطنين) مجرّد ضحايا أبرياء، لا حول لهم ولا قوة، بل ويجدون في هذه النصوص ملاذاً لإعفاء أنفسهم من أية مسؤولية!!
وإنصافاً للبيروقراطية (Bureaucracy) لا البيروقراطيين (Bureaucrats)، نستذكر معناها الذي يزاوج بين كلمتي: “بيرو” الفرنسية ذات المنبت اللاتيني وتعني المكتب، و”كراتس” اليونانية الإغريقية الأصل وتعني سلطة (أو حكم وقوة وسيادة) ومترادفاتها. كما نستذكر أباها الشرعي (ماكس ويبر) المفكّر الألماني الذي شهد ما طرأ على المؤسسات الصناعية من تضخم فرأى أن “البناء أو الهرم التنظيمي” المحكم، بعيداً عن الاعتبارات الشخصية والإنسانية، هو الطريقة التي تزيد الإنتاج، و(ويبر) هو أيضاً الضابط السابق الذي تأثر بالتنظيم العسكري المبني على الأوامر والتعليمات الصارمة، وعالم الاجتماع الذي أدرك عوامل ضعف العنصر البشري فاعتقد أن القواعد المحددة يمكن أن تعوّض ذلك وتضمن عدم تدخّل المصالح الشخصية.
من هنا، استقى (ويبر) نظريته البيروقراطية وفق حياة عصره أواخر القرن التاسع عشر، ودعمها بخبراته الشخصية، واضعاً نموذجه التنظيمي الذي اعتقد أنه سيلائم أية بيئة وأي مجال إداري، ومحدداً مهام وصلاحيات وأدوار المرؤوسين بدقة ضمن لوائح وإجراءات وقواعد وضوابط مكتوبة تكفل التحكم في سلوك الجماعة البيروقراطية. وقد حرص (ويبر) في نظريته على أن تتضمن: تخصص العمل، والتسلسل الهرمي المحدد للسلطة، ومجموعة من الإجراءات والقواعد الرسمية، والتفاعل الموضوعي الذي لا يقوم على العلاقات الإنسانية والشخصية، واختيار الموظفين وتقدّمهم وترقيتهم على أساس مبدأ الاستحقاق.
لقد أجمع مؤيدو ومنتقدو “تنظيم البيروقراطية” في العالم على أنها لا غنى عنها، وأنها سلاح ذو حدّيْن: فهي تنظيم نموذجي يُفترض أن يؤدي إلى إتمام العمل على أفضل وجه، ولا تصبح مرضاً إدارياً إلا إذا أساء الإداريون والموظفون استخدام أركانها، أي “المتبقرطون”. ولتقليل إساءة الاستخدام، اقترح البعض جملة من الخطوات المكمّلة لتطبيق البيروقراطية، أهمها: زيادة فعاليات أجهزة الإصلاح الإداري، والمرونة في العمل، والتوسع في التدريب والتأهيل، ومراقبة السلوكيات الإدارية المنحرفة، وتعزيز لقاءات المسؤولين بالمرؤوسين، وتأكيد مبدأ أن الإنسان هو الغاية، وأن الأنظمة واللوائح والإجراءات ما هي إلا وسائل لتحقيق تلك الغاية.
وعود على بدء، هل نحن في الوطن العربي ـ على تفاوت نظمه وتطبيقاتها ـ إزاء بيروقراطية رشيدة في الحكم بإداراته ومؤسساته المختلفة، الحكومية منها وشبه الحكومية وحتى الخاصة؟ أم أن المسؤول، بكافة مستويات المسؤولية، يعتبر نطاق إشرافه مجرد مزرعة شخصية له، وهو فوق القوانين واللوائح والقواعد والإجراءات إن وجدت!! فهو، في الحالة الثانية، الحاكم بأمره والمتحكّم وفق مشيئته (وربما مزاجه) بناصية القرار والاستقرار، فيمنح ويمنع، ويوافق وينافق ويعارض، ويوسِّط ويوسَّط، والمحسوبية بحسب مصالحه الشخصية له ناظم، ولا محرمات لديه حيث الكرسي له ولذريته من بعده، والفضاء فضاؤه والقضاء قضاؤه، وحيث لا حسيب ولا رقيب، فابن الفقير فقير، وابن الغفير غفير، وابن الوزير وزير، وابن الأمير أمير.. أما الكسب والتكسّب غير المشروع فهو حقّ لا شبهة فيه إلا من مندس أو عميل، وحتى ما يجمع من قناطير مقنطرة من ذهب أو نقد وخلافه هو للتصدير، فالوطن ليس به جدير، فهو بالنسبة له وفي أحسن أحوال انتمائه الوطني ـ إن وجد ـ ليس سوى بقرة حلوب للكسب لا للتكسيب.. وكل ما قيل وما يمكن أن يقال، يتعارض مع (ويبر) الذي وضع نظريته في البناء البيروقراطي لكبح جماح الشخصنة وضبط حتى الاعتبارات الإنسانية.
باختصار، اننا في الوطن العربي أمام ظاهرة فريدة من نوعها، يمكن تسميتها اجتهاداً (الشيخوقراطية) التي تعني، وفق سياق عالم المزج والاشتقاقات، حكم المشيخة، حيث ـ شكلياً ـ لدى كلّ قطر عربي بصيغ متنوعة شتى: دستور، وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية وحتى إعلامية، ووزارات ومؤسسات حكومية وشبه حكومية، وهيئات نقابية ومهنية وشعبية، ومؤسسات المجتمع المدني، وكافة البنى الفوقية والتحتية، وحزب أو أحزاب سلطة وأخرى معارضة.. ولدى كل ما سبق هياكل تنظيمية وقواعد وإجراءات عمل ووصف وظيفي متسلسل ومكتوب، وربما حصل كثير منها على شهادات جودة مختلفة.. اللهم لا حسد. لكن نظرة سطحية لما تحت مستوى سطح الشكليات والمدونات الورقية والألكترونية، تكشف بما لا يدع مجالاً للشك، أن كل ما لدينا فعلياً هو (شيخوقراطية) هرمية من الأعلى إلى الأسفل، حيث يقبع على رأس الهرم الشيخ الكبير الذي تتجمّع بيديه شتى السلطات والصلاحيات والمسؤوليات، فهو القائد الأعلى (بلا منازع) للجيش والأمن والدفاع المدني وحتى للاتحادات المهنية بما فيها اتحاد المرأة! وهو مَن يتخذ قرارات السلم والحرب، وهو صاحب العقد والربط للسياسة الخارجية والداخلية، وهو الراعي لكافة قطاعات الاقتصاد من صناعة وزراعة وتجارة وخدمات وحتى السياحة العلاجية وميادين الفن والإبداع، أوليس هو “المثقف العام” أو “الشاعر العام”؟! كيف لا، وهو الحاكم بأمر الله، وإليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح. وما دام هو النموذج الملهَم والملهِم، فما دونه يحذو حذوه ويقتدي به، في نسيج شبكي محبوك بحبال المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وسط هتافات ـ ولو هامسة ـ تصدح: عاشت الشيخوقراطية!!