تشير الوقائع التاريخية بما لا يدع مجالاً للشك أن ما يحدث في فلسطين والمنطقة العربية والشرق أوسطية
يسير وفق مخطط استعماري غربي جهنّمي متواتر خطوة بخطوة، تم نسج أحابيله في القرن السادس عشر الميلادي ـ بعد سقوط الأندلس يوم 2/1/1492 ـ داخل الغرف المغلقة مع بداية خروج أوروبا من عصورها المظلمة، ولعبت النُّخب الأوروبية بشتى اختصاصاتها دوراً محورياً في فلسفة استباحة الآخر وخداع العامّة بتبريرات تلك الاستباحة والانخراط فيها بدواعي “تحضُّر” و”تفوُّق” الجنس الأبيض والذي يُحتِّم عليه تصدير أزماته خارج القارة الأوروبية، وممارسة حقّه في استعباد الآخر ونهب ثرواته بل وقتله، كون هذا الآخر دونيّ لا يستحق الحرية ولا حتى الحياة، ولا يعرف الانتفاع بثرواته التي يُفترض أن تكون من حقّ الجنس الأوروبي الأبيض المتحضّر الذي يُدرك قيمتها وكيفية الانتفاع بها، ومن واجبه “الإنساني” و “الأخلاقي” القيام بفرض وصايته على أولئك “الهمج”، والأخذ بأيديهم ولو بالحديد والنار، كونهم متخلّفين وقاصرين وجَهَلة ولا يعرفون مصلحتهم.. وهم الذين يحفل تاريخهم بفظائع الحروب البيْنيّة البربرية ، ومجازر حروبهم الهمجية المتوحشة المسمّاة زوراً وبهتاناً الحروب الصليبية “المقدسة” والتي فتكت بالمسيحيين المشرقيين والمسلمين واليهود وغيرهم على حدٍّ سواء؟!
بهذه الغوغائية المتوحّشة برّر الأوروبيّون ولا يزالون كلّ ما اقترفوه من جرائم قتل وإبادة ونهب واستعباد بحقّ كافّة شعوب الأرض وأوطانهم التاريخية في شتى القارّات الأخرى. ومن رحم هذه الفلسفة العنصرية الإقصائية المشوَّهة انبثقت “الصهيونية المسيحية” وقبل عدة عقود من ولادة “الصهيونية اليهودية” كابن شرعيّ لها، وَعى واقع الجماعات اليهودية المنبوذة، والتي فقدت وظيفتها التاريخية المالية والتجارية والتسليحية والتجسسية لدى نبلاء وبلاط النُّظم الاقطاعية المنهارة، وبالتالي لا بدّ من تصديرها مع قطعان مجرمي وحثالات أوروبا الجديدة، وتسويغ ذلك بخرافات تلمودية ما أنزل الله بها من سلطان، واستغلال تلك الجماعات المتناثرة في وظيفة استعمارية غربية جديدة، رست مصلحة هذا الاستعمار الغربي على خيار فلسطين لإقامة قاعدة عسكرية قتالية متقدّمة له لحماية مصالحه الحيوية الاستراتيجية في منطقتنا العربية والشرق أوسطية، وكانت الديباجات والافتراءات الصهيونية حول “شعب الله المختار” و “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” والعودة إلى “أرض الميعاد”..؟!
وكي يتحقق ذلك، دخلت دول أوروبا الاستعمارية سباقاً محموماً لترجمة مشروعها الاستعماري، كجزء لا يتجزأ من تنافسها الدموي على مستعمراتها في قارات العالم الأخرى.. فكان وعد نابليون بونابرت الذي تحطّمت آماله على شواطيء وأسوار عكا عام 1799، قبل قرن من تأسيس الحركة الصهيونية، حيث خاطب من خلال بيان له يهود آسيا وأوروبا قائلاً: “أيها الإسرائيليون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة، إن فرنسا تُقدّم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم”، داعياً إيّاهم للقدوم إلى القدس تحت الراية الفرنسية.. وبعد هزيمة نابليون بحوالي أربعين عاماً، حاول وزير خارجية بريطانيا “بالمرستن” في حينها، استغلال يهود أوروبا بإقامة وطن لهم في فلسطين، فيحظى برضاهم من جهة، ويردّ على محاولة محمد علي توحيد مصر وسورية عام 1840، طالباً من السفير البريطاني في إسطنبول محاولة إقناع الخليفة العثماني وحاشيته بأن الحكومة الانجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسباً لفتح فلسطين أمام هجرة اليهود، ورداً على الرفض العثماني قام البارون الثريّ اليهودي ادموند روتشيلد بتمويل إنشاء 30 مستعمرة يهودية في فلسطين أهمها مستعمرة “ريشون لتسيون” المعروفة.وقد ظهر مصطلح الحركة الصهيونية لأول مرة عام 1885 على يد الكاتب النمساوي “ناتان بيرنباوم“، وهدفها الاستيطان في فلسطين، وكلمة الصهيونية مشتقة من صهيون إحدى تلال القدس. بعد ذلك نشر الصحفي الصهيوني “ثيودور هيرتزل“ كتابه “الدولة اليهودية“ باللغة الألمانية. ولشعوره بتعلِّق يهود أوروبا بالهجرة نحو أمريكا، حثّ ساعده الأيمن الطبيب “ماكس نوردو” على إرسال إثنين من كبار رجال الدين اليهود إلى فلسطين، ولدى عودتهما عام 1896 حملا جواباً من سطر واحد جاء فيه: “العروس جميلة جداً ومستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً“، وقد فهم “نوردو” المقصود أن فلسطين ليس كما ذكر هيرتزل أرضاً بلا شعب، وأن فيها شعباً يسكنها منذُ آلاف السنين. ورغم ذلك تبنّى المؤتمر الصهيوني الأول في “بازل” السويسرية صيف 1897 برنامج تأسيس وطن معترف به للشعب اليهودي في فلسطين. وفي عام 1907 توجه إلى فلسطين لأول مرة “حاييم وايزمن” عالم الكيمياء البريطاني، وعضو الحركة الصهيونية العالمية، ليؤسس شركة تطوير أراضي فلسطين في يافا بدعم من عائلة “روتشيلد”، بهدف شراء الأراضي بتمويل من الصندوق القومي اليهودي. وفي عام 1915 قدمت لمجلس الوزراء البريطاني مذكرة سرّية بعنوان مستقبل فلسطين، كتبها أول صهيونيّ يهوديّ يصل لمنصب وزير بريطاني “هيربرت صموئيل“، جاء فيها: “الوقت الحاضر ليس مناسباً لإنشاء دولة يهودية مستقلة، لذا يجب ان توضع فلسطين بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية، لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي“، وقد تم الأخذ بتوصيته في الاتفاقية السرّية التي جمعت بريطانيا وفرنسا لتقسيم سوريا الكبرى “سايكس ـ بيكو“، وتم وضع فلسطين تحت سيادة مشتركة للحلفاء لإعدادها للدولة اليهودية، وبعد عام واحد 2/11/1917 كان وعد بلفور المشؤوم تحصيلَ حاصل. وكان انتزاع الأرض وتفريغها من أصحابها التاريخيين هاجس الهواجس لعصابات الإجرام الصهيونية المدعومة كيفما يكون الدعم من سلطة الانتداب البريطاني والغرب الاستعماري، بما فيهم حتى النظاميْن النازي الألماني والفاشي الإيطالي وباتفاق رسمي مع قادة الحركة الصهيونية عُرِفت باسم “هعفراه”؟!وبعدما نضجت الظروف على أقبح وجه، حان وقت انتهاء الانتداب، وإعلان إقامة الكيان والاعتراف به بتوافق أو بالأحرى بتواطؤ دولي، على حساب نكبة الشعب الفلسطيني. وبعيداً عن الغوص في التفاصيل، بقي هاجس عودة اللاجئين الفلسطينيين من المنافي الإجبارية، وتكاثر من بقي منهم على أرض فلسطين التاريخية، يقضّ مضاجع الكيان الذي زرعه الاستعمار الغربي عُنوة فوق التراب الفلسطيني التاريخي بأكذوبة كبرى “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ولم يدّخر الكيان الغاصب وسيلة همجية وبربرية إلا وابتدعها لتفريغ فلسطين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ومن تلك الوسائل كانت بدعة ما يسمى “قانون العودة” العنصري وملحقاته، الصادر يوم 5/7/1950، وهو ما سيتم تناوله بالتفاصيل في الجزء الثاني.