أحدثت عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” إسماعيل هنية ـ بحدّ ذاتها ـ زلزالاً تجاوز الدَّرَجات الثمانية في مقياس “ريختر”، لا تزال ارتداداته تتوالى بقوة.. كما أثارت مشاهد تشييعه الجنائزية المَهولة، وخصوصاً في العاصمة الإيرانية طهران، حيث وقع الاغتيال، موجات “تسونامي” في كافة الاتجاهات، ما انفكت أمواجها تتصاعد، مُحرّكة حتى المياه التي ظنّ الكثيرون أنها راكدة، حيث استنفر المصطادون في المياه العكرة، ومعهم استيقظ الغافلون والمُغفَّلون، ليمارسوا معاً هوايتهم المفضّلة للاصطياد في الماء العَكِر.. وإذا كان صحيحاً ومُؤكّداً أن دماء الشهداء لن تذهب هدراً، بل هي مشاعل نورٍ ونارٍ لمَن سيواصل المِشوار، فإن دم “هنية” قد حمل وحوى رسائل كثيرة وهامّة وناريّة، وبالبونط العريض، داخليّاً وخارجيّاً، لمَن يريد الاعتبار، فوراً ودونما انتظار..؟!
لعلّ أولى هذه الرسائل وأهمها، ضرورة الاعتراف والإقرار بوجود ضعف واضح في الجبهات الداخلية لدول وقوى المقاومة، بدليل تجرؤ الأعداء على تكرار عمليات الاعتداءات والخروقات المتتابعة التي لا حصر لها، وفي عُقْر الدار والبيوتات، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في منظومة إجراءات ومتطلبات تحصين القلاع من الداخل، وكنهج متواصل، وعدم الرُّكون إلى الشعارات وما مضى من دراسات واستنتاجات، يُدركها الأعداء قبل الأصدقاء، ويَنفذون من منافذ القصور ومكامن الضعف. وهنا لا بدّ، ومن باب الحرص، على التذكير لمَن تنفعه الذكرى، بأن الاستبداد وكتم الحرّيات، وعدم الاستماع إلى الرأي الآخر حتى من الأصدقاء والحريصين.. كلّ ذلك وسواه، يُشكّل أرضية خصبة وبيئة جاهزة، يستثمرها الأعداء أيّما استثمار..؟!
كما أن لجم الأعداء، ووضع حدّ لجرأتهم المتزايدة، وكسر سلسلة اعتداءاتهم الدنيئة والوقحة.. يتطلب مغادرة فورية لدوامة “ردّ الفعل” غير المجدية حتى الآن، ورسم خطط مسبقة وجاهزة للتنفيذ المباشر والفوري، تأخذ بعين الاعتبار أن الأعداء يتّصفون بالّلؤم واللاإنسانية، ولا يقيمون وزناً للمواثيق والأعراف والقوانين الدولية وحتى للقائمين عليها، السماويّة منها والوضعيّة، ولا يراعون القِيم والأخلاق وحتى الفطرة الإنسانية السّويّة. وكذلك يفعلون..؟!
ومن ناحية أخرى، فقد حمل مشهد تشييع “هنية” الحاشد والصلاة عليه في طهران، رسائل متعددة وصاعقة، أصابت الكيان ورعاته ومَن يُواليهم بالصدمة والهستيريا، وهم الذين عملوا بشتى الأساليب الحقيرة، ولعقود طويلة، وأنفقوا مئات المليارات بل والترليونات، للحيلولة دون وحدة المشرق والمغرب العربي بشتى إثنياته وطوائفه ومذاهبه وقوميّاته، ووحدة الأمّة الإسلامية كذلك، وزرعوا كيانهم الإجرامي في سبيل ذلك، وعوّلوا وعملوا على تقويته وتدعيمه بلا ضوابط أو حدود، وبنوا آمالَ استمراره في أداء وظيفته الموكلة له من خلال ضرب أيّة محاولات للوحدة في مهدها من جهة، واختلاق فتن إثنيّة وطائفية وقومية حيثما أمكن تُراعي خصوصية تركيبة كل بلد على حدة من جهة أخرى.. لهذا استنفروا بشكل غير مسبوق كافة الأدوات والإمكانيات، لتشويه المشهد الوحدوي الإسلامي في طهران، وبمنتهى الخِسّة، وهو ما يشير على أن هكذا مشهد قد أصابهم في مقتل، حيث يُمكن لهذه “الصيدة” الفتنوية أن “تطير” حسب اعتراف أحد مُفوَّهيهم بالتعبير.. وعليه فإن على العرب والمسلمين عامة، ودول وفصائل المقاومة على وجه الخصوص، اليقظة والتنبّه واستثمار هذا المشهد الوحدوي، والبناء عليه في صياغة استراتيجية إعلامية شاملة، يُمكن لها أن تُواجه الماكينة الإعلامية الفتنويّة الضخمة: أموالاً، شاشات تلفزيونية، منابر ومواقع ألكترونية، ونُخَباً مُصنَّعة ومُعلَّبة، وكثيراً من الجَهلة ببواطن الأمور..؟!
ويبدو أن دم هنية قد نزع ورقة التوت الأخيرة عن المواقف الرماديّة، وتلك المنافقة التي تفعل عكس ما تقول، والمغلوب على أمرها التي لا تملك من أمرها شيئاً، فضلاً عن المطبّعين الوقحين الذين باتوا لا يخجلون من اصطفافهم كحائط صدّ عن الكيان المأزوم والمهزوم وعلى رؤوس الأشهاد..؟!
وإذا كان مفهوماً تقاطر رسائل الدول الصانعة والراعية للكيان في كافة الاتجاهات، وخصوصاً باتجاه الجهات المعنية بممارسة حق الردّ المشروع على الاعتداءات والاغتيالات الإجرامية لكيانهم المتغطرس. فإنه من غير المفهوم ولا المُستوعب، أن تبادر دول عربية إلى لعب وظيفة ساعي بريد للكيان ومصنّعيه، راجيةً الإحجام عن الردّ أو مَسْرَحَته وإفراغه من مضمونه إن كان ولا بدّ من الردّ، وناقلة رسائل تهديد هي ذاتها التي أطلقها رئيس أركان الكيان مؤخراً بتدمير الشرق الأوسط، مستنداً إلى دعم أمريكي وغربي وحائط صدٍّ عربي مأمول بل ومتوقّع، خاصة بعد الامتثال العربي والإسلامي بعد قمة الرياض العربية والقمة الإسلامية التي تلتها، لأمر نتنياهو الصريح “عليكم أن تصمتوا”، ثم طلبه إقامة تحالف عربي “الناتو العربي” بقيادته طبعاً للدفاع عن كيانه، ثمّ خوض حروبه الإجرامية بالنيابة عنه أو المشاركة فيها في الخط الأمامي كحدّ أدنى. وفي هذا السياق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، جاءت زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي مُحمَّلاً بثلاث رسائل: واحدة من مملكته، واثنتان من واشنطن وتل ابيب، تضمّنت الأولى الرّجاء بعدم القصف، وإذا أنتم قررتم القصف فلا يكون كالمرة السابقة في 13 نيسان إبريل الماضي من خلال أجوائنا، كي لا نُحرج ونضطر للتصدي لها، لا سيّما وأنتم تعلمون أن في الأردن حالياً مقر متقدم للناتو، وأن السفن الإسرائيلية باتت في ميناء العقبة وهي مهيأة للتصدي لأي مقذوفات. في حين نقلت الرسالتان الأخيرتان كالعادة تهديد ووعيد بإشعال المنطقة وحرق إيران والفصائل التي تدعمها، وذلك لأن كل الترجيحات تشير إلى أن الرد الإيراني سيكون مُركّباً وقتاً وكمّاً وليس بألضرورة كما يُتوقع ان يكون جوياً فقط! مع تلك الفصائل بالإضافة إلى رد الجيش اليمني. وقد جاء الجواب الإيراني للوزير الأردني صاعقاً وشديداً وغير متوقّع: أي دولة ستحاول اعتراض هجومنا سنتعامل معها كما نتعامل مع الكيان الصهيوني. وهنا “قطعت جهيزة قول كلّ خطيب”، ويبدو أن القيادة الإيرانية تعلم جيداً أن هناك مجاميع من المعارضة الإيرانية العميلة لإسرائيل “مجاهدي خلق”، تحتضنهم مملكة الوزير الصفدي، وهم متورطون بأعمال الاغتيالات والتفجيرات في الداخل الإيراني. وقد أُعْذِر مَن أَنْذَر، ولا عُذْر لمَن أُنذِر، فهل إلى ذلك من سبيل..؟!