منذ أن اقتنى والدي المقدسي مذياع “الترانسزتر” حتى التصق به كأحد أعضاء جسده النحيل المتعب من عمله المُضني في ورشات غربي مدينة السلام التي اختطفها الغربان السود حتى اسمها الممهور بقِدَم وعَبَق التاريخ الغارق في القِدَم، حتى غدا لصيقاً بفراش نومه ووسادة رأسه المثقل بالهموم والمسؤوليات الجِسام. فكنّا نستفيق على نشرة السادسة صباحاً “هنا لندن” محطة بي بي سي، ثم يصدح صوت أحمد سعيد معلّق “صوت العرب” هادراً ” أبو خالد (جمال عبد الناصر) يا حبيب بكرا حنوصل تل أبيب” متوّعداً السمك بالجوع “تجوّع يا سمك” وبصاروخي “القاهر و “الظافر”.. وكانت النكسة ـ إيّاها ـ وما زال الصوت ذاته يدوّي “طائرات العدو تتساقط كالذباب”. وانكشفت الحقائق، واحتفظ المذياع بمكانته المرموقة، وجاء مساء 28/9/1970، ولم أشاهد والدي يبكي وينحب مفجوعاً من قبل كما رأيته يوم وفاة “عبد الناصر” مباشرة بعد انتهاء القمة العربية، ومضى زعيم الأمة الخالد “أبو خالد” ولم نَرَ قاهراً قهر ولا ظافراً ظفر، وسمك المتوسط أنهى صيامه الطويل، وبدل الوصول إلى تل الربيع فقدنا قناة السويس ونهر الأردن “الشريعة” ومرتفعات الجولان وبحيرة طبريا”؟!
عندما تجاوز الجنرال البريطاني “ألنبي نهر الأردن توجّه صوب بيسان حيث وقعت معركة “حطين الخالدة ” وقال جملته: “الآن هزمتك يا صلاح الدين”، وعندما حاصر القدس وهزم حاميتها العثمانية قال قوله المشهور: “الآن انتهت الحروب الصليبية”، وبذات المعنى أعلن “جورج بوش الابن” “الحرب الصليبية” ضد العراق الشقيق، ثم تراجع معتبراً كلمته زلّة لسان، وما أكثر زلّات لسانهم المتعمّدة.
وفي أحداث 11 سبتمبر، وإعلانهم الحرب على “الإرهاب الإسلامي”، صوّروا طالبان الأفغانية وتنظيم القاعدة كقوة عالمية عظمى تحتاج إلى تحالف دولي على غرار ما جرى في الحرب العالمية الثانية، وكان احتلال وارتكاب حرب إبادة شعواء ضد الشعب الأفغاني المسالم، وسقوط كابول بيد الاستعمار الغربي إيّاه ولمدة عشرين عاماً. ثم كان تنفيذ مخطط تدمير العراق المُعد مسبقاً واحتلال بغداد عام 2003، والذي سبقه فبركات وأكاذيب تم فضحها، حول الجيش العراقي إلى الرابع عالمياً، وإيواء “القاعدة”، وأسلحة الدمار الشامل، وتشكيل أوسع تحالف إجرامي في القرن الحادي والعشرين، وكأنهم أمام خطر عراقي يتهدد العالم أجمع، وكأن الرئيس العراقي الشهيد “صدام حسين” يمثّل خطراً وجودياً يوازي “أدولف هتلر” النازي الألماني.
ثمّ كان “طوفان الأقصى” الذي يندرج في إطار حق مقاومة الاحتلال المشروع والمقر ضمن ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها المعتمدة ، حيث كان مسرح عملياته المناطق المفترض أنها محتلة ضمن حدود قرارا التقسيم 181 كجزء من أراضي الدولة العربية التي رسّموها بأنفسهم، وكان أن اعتُبِرَت “حماس” خطراً وجودياً ليس على الكيان الصهيوني المحتل بل على العالم الاستعماري الغربي “المتحضّر” برمّته. وصولاً إلى جرائم الاغتيالات الأخيرة، باعتبار هنية وفؤاد شكر يمثّلان تهديداً للسلم العالمي المنتهك منهم أصلاً. وها هم يعتبرون خطر المخاطر يتجلّى في شخص “السنوار” و”حسن نصر الله” كذلك.
مما تقدّم يتضح جليّاً أننا أمام استراتيجية غربية استعمارية واضحة المعالم، في صناعة الأعداء واختلاق الفتن والحروب وإجهاض آمال الشعوب ومصادرة إرادتها تقوم على صناعة “شخوص” هي بالأصل تتمتع بمواصفات قيادية حقيقية وتلعب أدواراً مفصلية وبل وتاريخية مقدّرة وتحظى بالتفاف شعبي مشهود، وتحويلها إلى “أصنام” تتعلّق فيها آمال وتطلّعات وطموحات الأمة بشتى شعوبها، ثمّ تتحوّل هذه “الشخوص” بعد تعظيمها والنفخ المبالغ بها وبخطرها وقدراتها الشخصية الفردية على الفعل والتأثير، ثم يتم التركيز على استهدافها بأقذر الأساليب الإرهابية الموصوفة، والهدف الذي لا يخفى على كل ذي بصيرة، تحطيم تلك “الأصنام” بهدف تحطيم الآمال والتطلّعات والطموحات المتعلّقة بها ، وإشاعة اليأس والإحباط وروح الهزيمة في أوساط الأمة، ليسهل استسلامها وقتل روح المقاومة في صفوقها، وهنا بيت القصيد. فهل يدرك كل عربي ومسلم أن القوّة تكمن في ذاته وشخصيته أولاً وقبل أي شيء آخر، وأن مَن يصنع التاريخ، ويحقق الآمال والتطلّعات والطموحات هو “الإرادة الجَمعيّة” للشعوب الحيّة والمقاومة فقط لا غير، وهذا لا ينتقص من دور القادة الأفراد، بل يتناغم معه ويُدعِّمه ويُعطيه أبعاداً تكاملية إضافية، فهل نستنهض طاقاتنا الكامنة أفراداً وقادة، ونستيقظ من سباتنا الذي طال أمده، وهل يدرك القادة أن مَن يمنحهم الشرعية ويحميهم ويحافظ عليهم وعلى صورتهم وهيبتهم هي شعوبهم حصنهم وملاذهم أولاً وأخيراً؟! فقد لاحت إشعاعات الفجر الآتي حتماً، فهل نستفيق مبكّراً، وقبل فوات الأوان؟!