بداية لهذا المقال لا بد من أن نسلط الضوء على جانب مهم يطلق عليه تشيؤ العقل (Reification of Reason)، الذي بدأ هذا المفهوم يحجم العقل ويحجم الأفكار والعلاقات الإنسانية، جاء هذا المفهوم وتطور على يد فلاسفة مدرسة فرانكفورت، أمثال جورج لوكاش وماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو.
ما أريد أن أقوله أن العقل في هذا الوقت أصبح أداة محايدة خالية من القيم الأخلاقية والإجتماعية، أي أنه يستخدم لخدمة الأهداف الاقتصادية والسياسية دون اعتبار للمعاني الأعمق أو القيم الإنسانية والاجتماعية، وهذا ما نشاهده ونلاحظه على سلوكيات الأفراد حيث أصبحوا أدوات مستهلكة وغير منتجة تشجع وتميل إلى السطحية وتتجرد من الفكر المعرفي والإبداعي والإنتاجي، بمعنى آخر يصبح العقل وسيلة لتحقيق الأهداف المادية فقط، مما يؤدي إلى تجريد العلاقات الإنسانية والمجتمعية من أي مضمون أو جوهر إنساني حقيقي.
الضحية في هذا كله هو عندما أصبح يتشيء لدينا عقول الأطفال والشباب الذين هم جيل الحاضر والمستقبل، حيث نلاحظ أن الثقافة السائدة في الوقت الحاضر، تشكل تصور الأطفال للعالم وكيفية تأثير ذلك على تطورهم الفكري، وكيف تجعلهم يخضعون للثقافة الاستهلاكية والعولمة، التي بدورها أدت إلى تكوين نماذج عقلية معينة، قد تكون في نهاية المطاف محدودة أو مقيدة، أي تحويل العقل البشري إلى مجرد عنصر استهلاكي، وهذا بطبيعة الحال يؤثر بشكل كبير على كيفية نمو الأطفال وتشكيلهم كأفراد مستقلين.
والواقع المرير في هذا كله عندما نقارن طفولة مجتمعنا بطفولة الدول المتطورة، نجد أن هناك اختلافات واضحة، إذ غالباً ما تُعتبر الطفولة مرحلة مهمة في حياة الفرد يتم التركيز عليها بشكل كبير، من حيث التعليم والرعاية النفسية والتطور الشخصي.
حيث أن العقلانية الأداتية الذي فرضته علينا المجتمعات الرأسمالية (دول الغرب)، أصبح يسيطر على جميع جوانب الحياة، مما يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته وعن مجتمعه، لتوضيح الرؤية في هذا الجانب لدينا أبسط مثال هو الإعلام والترفيه، حيث يتم إنتاج المحتوى بناءً على حسابات تجارية بحتة أو محتويات سطحية، بدلاً من تقديم محتوى يثري الفكر والثقافة، فكثيراً ما يتم توجيه الإعلام لتلبية رغبات السوق وتعظيم الأرباح، على سبيل المثال نلاحظ الترويج للمنتجات السلعية شمل جميع السلع البسيطة، حيث أصبح يتم استبدال تسمياتها مع إرتفاع أسعارها والمساهم في هذا المجال هي كل أفراد المجتمع العراقي من (الطفل الصغير، ربة البيت، الممثل، الإعلامي، الطبيب، المهندس، المعلم، الرسام، الفنان، الرجل العجوز)، جميعهم يساهمون في تحقيق رغبات المجتمع الرأسمالي، ويتسابقون من يمتلك ويستهلك فهو الفائز وكأننا في مزاد الاستهلاك، إذن هذه هي متطلبات الرأسمالية، لأنها تستند على مقولة شهيرة لديها وهي أن (الفرد هو المسؤول الوحيد عن فقره)، وبكل تأكيد يظهر الفارق الطبقي الواضح في مجتمعاتنا العراقي اليوم من حيث الفقر والبطالة والجهل والكثير من المشاكل التي بدأت لا تعد ولا تحصى.
لذلك ما أود أن أقوله أنه عندما يتبدل الإنتاج بدل الاستهلاك، يكون المجتمع بالفعل مدرك وحامي نفسه من تشيؤ العقل والسيطرة الرأسمالية والخضوع لرغباتها، وإنني كباحثة في المجال الاجتماعي أتسائل دائماً لماذا لا تكون أنشطة ترفيهية أو نشاطات اجتماعية؟ لماذا لا يكون لدينا تعليم ناجح، لأنه ببساطة حتى التعليم تحول إلى عملية ميكانيكية تهدف فقط إلى تحصيل درجات وتحقيق النجاح الأكاديمي، بدلاً من أن يكون وسيلة لتنمية الفكر النقدي والإبداعي، اذ اصبح العقل وسيلة لتحقيق النجاح الوظيفي وليس للفهم الأعمق للعالم ، لذلك عندما نقارن ما بين الماضي والحاضر نلاحظ ان مجتمعاتنا العربية ومن بينهم مجتمعنا العراقي كانوا يخرجون علماء، اتسائل اين هم الآن؟؟ لذلك فإن الإعلام المحلي له دور في ان يعزز وينهض بالثقافة الجماهيرية من خلال غرس الوعي والابتعاد عن السطحية والمحتوى الهابط للذوق العام، وقادراً بأن يكون وسيلة لنقل الحقائق والمعلومات بشكل موضوعي، بدلاً من ان يتحول إلى أداة للدعاية والتلاعب بالجماهير وبالتالي يتحجم لدينا هذا التشيؤ ويصبح الافراد مدركين لما يدور حولهم.