صحافة وآراء

قادة نصف العالم يحتفلون اليوم في موسكو

رامي الشاعر

نقلاً عن موقع روسيا اليوم

تستضيف العاصمة الروسية موسكو اليوم قادة من 27 دولة حول العالم يمثلون نحو 3.6 مليار نسمة على أقل تقدير احتفالا بالذكرى الثمانين للنصر على النازية في الحرب الوطنية العظمى.

ويمثل القادة كل القارات باستثناء أستراليا إضافة إلى الأمناء العامون لمنظمات شنغهاي للتعاون، رابطة الدول المستقلة، المجموعة الاقتصادية الأوراسية، منظمة معاهدة الأمن الجماعي، منظمة التعاون الإسلامي، الاتحاد الإفريقي، رئيس بنك التنمية الجديد.

يأتي هذا الاحتفال المهيب في ظل وضع دولي عنوانه التوتر وسمته القلق والتصعيد والخوف من الحرب النووية التي يمكن لأسبابها أن توجد في لحظة خائنة ولأي هفوة بسيطة. فأحلاف الحرب والصقور حول العالم لا زالوا يتوهمون قدرتهم على “هزيمة” روسيا القوة النووية العظمى “استراتيجياً في ساحة المعركة”، وبرغم ما أثبته الجيش الروسي من جدارة وجسارة وقدرة على السيطرة، وبرغم خسارة أوكرانيا والغرب من ورائها لما يزيد عن 20% من مساحة البلاد، واستعادة روسيا لحقها التاريخي، الذي كانت إلى عهد قريب على استعداد للتنازل عنه مقابل حقوق السكان الروس الذين يعيشون على تلك الأراضي، إلا أن كييف ولندن وباريس وبرلين لا زالت تدق طبول الحرب، وتزج النخب السياسية بأبناء الشعب الأوكراني إلى المذبحة دون طائل وبلا أفق أو هدف أو نتيجة.

وحينما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استعداد روسيا للحوار مع الولايات المتحدة، في ظل الإدارة الجديدة والرئيس دونالد ترامب، فلم يعن ذلك أبدا حاجتها إلى وساطة للتوصل إلى اتفاق لوقف العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا والتخلي عن المهمة التي يتعين إنجازها بالكامل لاستعادة أراضي روسيا وحماية المواطنين الروس واجتثاث النازية ونزع سلاح النظام الإرهابي في كييف وحماية الأمن القومي الروسي من تمدد حلف “الناتو” نحو حدود البلاد وضمان أمن وسلامة وسيادة ووحدة أراضي روسيا. بل ما كان ولا زال يعنيه الرئيس بوتين هو التوجه رأساً إلى جذور المشكلة والصراع والأزمة، ما تعنيه مساعي موسكو وقف تمدد “الناتو” شرقاً، عدم دخول أوكرانيا إلى “الناتو”، حق تقرير المصير لسكان دونباس والقرم، ضمانات أمنية موثقة وموثوقة للجميع وليس على حساب أمن أي طرف من الأطراف.

وروسيا، الدولة العظمى، وريثة الاتحاد السوفيتي (لكنها بالقطع ليست الاتحاد السوفيتي ولا تسعى لذلك)، الدولة ذات الموارد، والقدرة، والقوة النووية، وشعبها العظيم صاحب الحضارة، والمؤثر بفعالية عبر العصور في التاريخ البشري، لا يمكنها أن تخسر هذا الصراع الوجودي، لأنها تقف إلى جانب الحق والعدالة وتقرير المصير وتحرير الشعوب من استغلال الاستعمار الجديد، وأيديولوجية النازية الجديدة، التي عادت لتطل علينا من جديد في وسط أوروبا والأوهام المريضة التي لا زالت تملأ رؤوس البعض بشأن “هزيمة روسيا استراتيجياً”.

فالحقائق على الأرض، والتي يعيها ويدركها الجميع اليوم في حلف “الناتو” بقيادة الولايات المتحدة، والتي يراها ترامب وفريقه هو أن روسيا تتقدم على جميع الجبهات، ولم تتمكن أحدث أسلحة الغرب سواء صواريخ “هيمارس” و”ستورم شادو” ودبابات “ليوبارد” وطائرات “إف-16” من إحداث أي تغيير في موازين القتال.

إن ما يحدث الآن ليس سوى امتداد للاستراتيجية العسكرية لحلف “الناتو” ضد روسيا بوصفها وريثة للاتحاد السوفيتي، بل وامتداد لما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، بعد أن ألحق الاتحاد السوفيتي بالنازية القديمة هزيمة نكراء. وليست كل الإجراءات “السياسية” للاتحاد الأوروبي، ومحاولات تزييف التاريخ، والمساواة بين النازية والشيوعية، وإزالة النصب التذكارية، وإهانة ذكرى أبطال الحرب العالمية الثانية، سوى إعادة تأهيل للنازية من جديد، تتوّجه تلك الحرب الشعواء الاقتصادية والإعلامية والاجتماعية والثقافية والفنية ضد كل ما هو روسي، وما نراه يستشري في أوروبا كالنار في الهشيم من المزاج العنصري المناهض للروس “الروسوفوبيا”. وكم تشبه فاشية هتلر وموسوليني ما يجري اليوم من دعم والدفاع عن الفاشية الصهيونية في أوكرانيا وإسرائيل.

ولا يسعني ونحن نحتفل بالذكرى الـ80 للنصر على النازية في الحرب الوطنية العظمى إلا التعليق على تصريحات بعض المسؤولين في البيت الأبيض، وما يرونه “حلا للأزمة الأوكرانية”، بما في ذلك مقترح وقف إطلاق النار على أساس الاتفاق على منطقة عازلة بعرض 15 كيلومتر استناداً إلى خط التماس الراهن.

كنت أتمنى أن يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أدرك على نحو واضح ودقيق موقف ورؤية روسيا لكيفية إنهاء الأزمة الحالية مع “الناتو” (وليس مع أوكرانيا بالطبع)، وكنت أتمنى أن يقرأ مستشاروه ومساعدوه تاريخ الأزمة جيداً، ومن قبلها بطبيعة الحال تاريخ النازية والحرب العالمية الثانية وكنت آمل أن يعود هؤلاء إلى ما حدث بعد الثورة البرتقالية في عهد الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يوشينكو، الذي أعاد القومي الأوكراني المتطرف والمتواطئ مع هتلر ستيبان بانديرا إلى صدارة المشهد، وجعله بطلاً قومياً، بل ومنحه “وسام بطل أوكرانيا” عام 2010.

وعلى مدار العقدين الماضيين عادت التنظيمات الأوكرانية المتطرفة للانتشار والتأثير والتبجح، حفيدة التنظيمات التي تواطأت مع هتلر وعملت معه وكانت تقوم بعمليات تجسس وتوزيع منشورات معادية للاتحاد السوفيتي والشيوعية بين السكان الأوكرانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وكأن التاريخ يعيد نفسه.

وخلال العشرين سنة الماضية، استعاد زميل بانديرا وأحد القياديين في تنظيم القوميين الأوكرانيين رومان شوخيفيتش هو الآخر “نضارته” و”تأثيره”، وحدث ذلك تحت سمع وبصر بل وأحياناً بتأييد ودعم الغرب، الذي يتشدق ليلاً ونهاراً بقيم العدل والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

وللتذكرة لا أكثر، فقد كان شوخيفيتش يدعو صراحة إلى “التخلص من البولنديين واليهود والروس، ويدعو إلى نقاء العرق الأوكراني”.

لقد جرم الاتحاد السوفيتي، ولا زالت روسيا تجرّم كل من بانديرا وشوخيفيتش وكافة التنظيمات التي كانت تضم هؤلاء المتواطئين. وكي نفهم وندرك السبب وراء ذلك أسوق لكم رسالة لهتلر من أحد المتواطئين الأوكراني أندريه ميلنيك، الذي كان يتعاون مع الاستخبارات الألمانية في الحرب العالمية الثانية، لإيمانه بأن الألمان “حليف طبيعي في القتال ضد عدو مشترك هو البولنديين” بعد ما ظن أنه “تحرير” لغرب أوكرانيا من قبل الألمان الذي وعدوه بأن يصبح “زعيم الشعب الأوكراني” (ما أشبه اليوم بالبارحة!).

كان أندريه ميلنيك في برلين عام 1941، وكتب لهتلر الخطاب التالي: “إن الشعب الأوكراني، الذي لا مثيل له في تاريخ الشعوب الأخرى في كفاحه من أجل حريته منذ قرون، يدعم بقوة المثل العليا لأوروبا الجديدة. والشعب الأوكراني بأكمله حريص على المشاركة في تحقيق هذه المثل العليا.

نحن، المقاتلون القدامى من أجل الحرية في 1918-1921، نطلب السماح لنا، مع شبابنا الأوكراني، بالمشاركة في الحملة الصليبية ضد الهجمة البلشفية.

خلال إحدى وعشرين عاما من النضال الدفاعي، قدمنا تضحيات دموية ونعاني بشكل خاص في الوقت الراهن من الضربات الرهيبة لعدد من مواطنينا. نطلب السماح لنا بالسير كتفا بكتف مع جحافل أوروبا ومحررنا الفيرماخت الألماني، وبالتالي نطلب السماح لنا بإنشاء تشكيل عسكري أوكراني”.

ولا أظن أن الرسالة بحاجة إلى أي تعليق.

إن روسيا اليوم، ومعها الصين والهند، ودول تمثل في مجملها أغلبية سكان العالم، ممن يحتفلون اليوم بعيد النصر في شتى بقاع الأرض، وفي إطار عدد من المنظمات التي تتوسع بنشاط أمام أعيننا، على غرار “بريكس” و”شنغهاي” و”الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، يؤكدون على رغبة ليس فقط “الجنوب العالمي”، وإنما أيضاً تجمعات وتكتلات داخل دول الغرب نفسها، في الانعتاق التاريخي للعالم من النازية القديمة والجديدة على حد سواء، الانعتاق من ضيق الهيمنة والأحادية القطبية إلى اتساع التعددية القطبية حيث تسود العدالة والمساواة، وحيث تعود الدول مرة أخرى إلى ميثاق الأمم المتحدة، الذي يساوي بين سيادة الدول.

إننا اليوم، وبينما نحتفل بالذكرى الـ80 للانتصار على الفاشية والنازية نقف على أعتاب محك هام وحساس للغاية، ولن ينهي الخلافات الدولية، لا سيما ما نراه من توتر مخيف بين القوتين النوويتين الهند وباكستان، سوى انصياع الجميع الكامل وغير المشروط لميثاق الأمم المتحدة وقوانينها وتعديل هياكلها كي تمثل الدول كافة على قدم المساواة والندية واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

يؤلمنا اليوم شديد الألم ما نراه من مظاهر الفاشية في حصار قطاع غزة، والعقوبات والحصار الاقتصادي الذي لا زال مفروضاً على سوريا، وغيرها من مظاهر العقاب الجماعي للشعوب العربية، فيما يشبه حصار لينينغراد 1941-1944 من حيث التصفية الجسدية والإبادة الجماعية لشعب كامل دون تمييز.

لقد أصدرت القيادتان الروسية والصينية يوم أمس بيانا شديد الأهمية وأعلنتا عن وقوف روسيا والصين حائط صد منيع لكل محاولات تزوير التاريخ وتشويه الدور السوفيتي والصيني في النصر على الفاشية، ومحاولات إعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية بالمساواة بين النازية والشيوعية، وبهدم وتدنيس النصب التذكارية لأبطال الحرب. ونأمل أن تكون بادرة إرسال ممثل عن الولايات المتحدة الأمريكية لحضور الاحتفال هي فاتحة خير وحسن نوايا وخطوة أولى على طريق من ألف ميل لاستعادة توازن النظام العالمي، وإرساء دعائم نظام تعددي قطبي يرقى كي يكون امتدادا للنصر الذي أحرزه الاتحاد السوفيتي والصين والحلفاء في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.

كاتب

  • رامي الشاعر

    كاتب ومحلل سياسي روسي من أصول عربية - مستشار لوزراة الخارجية الروسية لشؤون الشرق الأوسط تعتبر مقالاته تعبيراً عن الموقف الروسي شبه الرسمي. السيد رامي الشاعر فلسطيني الأصل ومن عائلة فلسطينية عرفت بنضالها وثقافتها ونهجها الوطني العروبي الاصيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى