
في جميع بقاع الأرض، تُقاس الحكومات بعدد المصانع، ومستوى الابتكار، والاستقرار السياسي، ومؤشرات التنمية المستدامة، والتقدم التكنولوجي. تُبنى الدول على أساس خطط خمسية ورؤى استراتيجية، وتتنافس الشعوب على الذكاء الصطناعي، وتكنولوجيا الفضاء، والصناعات التحويلية.
أما في العراق، فنقيس حكوماتنا بكميات الحبوب التي وزّعها رئيس الوزراء، ونوع البقوليات التي أرتبطت باسمه. هنا السُلطة تُقاس بكمية الطحين، لا بحجم الإنجاز.
تُدار بمنطق: “كم كيس عدس تم توزيعه اليوم؟” لا: “كم مشروعًا نهضويًا تم إنجازه؟”
منذ 2003، لم نحصل على دولة، بل حصلنا على سوق شعبي، نعم سوق شعبي.
متجر حكومي يتناوب عليه تُجار السياسة، كل واحد منهم يضع “نكهته” الخاصة من خلال السلة التموينية، ويترك شعباً يغلي على نار الفقر والإهانة والجوع، لكن السنوات الأخيرة لم تكتفِ بالرداءة، بل أنجبت ثلاث مدارس سياسية، كأنها كوابيس متعاقبة، تختصر الكارثة العراقية في مشاهد ساخرة ومؤلمة.
أولاً: مدرسة العدس السياسي — عبد المهدي و”وجبة الثورة” في عزّ ثورة تشرين، خرج شباب العراق يهتفون بوطن، لا بطبق شوربة.
صرخوا من أجل الكرامة، لا من أجل الغذاء، فصُبغت الأرصفة بدمائهم، وتهشّمت الرؤوس، لكن عبد المهدي، رئيس وزراء مرحلة الدم والنار، قرر أن يواجه كل هذا بتقوية سلطة التموينية، وقال الجملة السحرية ذات “الحلول الجوهرية”: انثروا العدس على سطوح المنازل! وكأن الثورة لم تكن بسبب الفشل السياسي والاقتصادي والأمني، بل كان يتخيّل أنها ثارت بسبب نقص في جدر الشوربة؟!
تَصوّر رئيس حكومة يرى وطنًا يُذبح، ويردّ بكيس بقوليات، وكأنّه يخاطب شعباً من الطيور(الحمام)، لا شعباً يُذبح على الأرصفة ويُهان، كأنّه يرى العراق كـ”مطعم شعبي”، لا كدولة تنهار.
هكذا دخل عبد المهدي التاريخ من أضيق أبوابه، لا كقائد، بل كـ”رجل للعدس”.
نثر العدس وخلّد اسمه في الطناجر (جداري) التاريخ، ورحل دون وداع.
ثانيًا: مدرسة الطمأنينة الزائفة، الكاظمي و”فنّ الاطمئنان”
ثم أتى الكاظمي، حاملاً كاميراته، ومُصوّراً يبدو كأنه مدير دعاية لشركة عطور فرنسية، لا لرئيس وزراء دولة تنهار. كُل جريمة، كل اغتيال، كل أزمة، كان يواجهها بجملة واحدة: “أطمئنوا”.
كلمة لا تُطمئن حتى جداراً متهالكاً، لكنها كانت شعاره، وكانت طريقته في الهروب من الحقيقة.
بلد يحترق؟ اقتصاد ينهار؟ مستشفيات تلتهمها النيران؟
ناشطون يُغتالون في وضح النهار ويُختطفون، وأنا الكاتب منهم؟
كلها لا تستدعي منه سوى تلك الابتسامة الباردة: “اطمئنوا”.
الكاظمي كان يُدير الخراب وكأنه جلسة تأمل، كأنه لا يرى النار خلفه.
يدخّن سيجارته، ويرتّب بدلته، ثم يعلن أن كل شيء تحت السيطرة…
بينما الدماء ما زالت حاضرة في الشوارع، والأمل غائب تماماً، وأُذُناه أردتُ قطعها، لكن فقط: “اطمئنوا”.
لقد صنع وهماً بحجم وطن، ووعداً فارغاً بحجم مقبرة.
ثالثًا: مدرسة الكرم الأعمى، رئيس الحنطة والقمة.
اليوم، نعيش في ظل حكومة تتفاخر بأنها وزّعت الحنطة على دول الجوار، بينما هناك عوائل في الوطن لا تملك كيس حنطة، وكأن كرامة المواطن رخيصة لهذه الدرجة، وكأن طحين الدولة يُوزّع على الآخرين، كأننا بلد نفطي فائض، لا بلد مُفلس حتى النخاع ويُدار بـ”القدرة”.
ولم يتوقف الكرم عند دول الجوار، بل ذهب بعيداً. تم إرسال شوالات حنطة إلى الموزمبيق! نعم، الموزمبيق.
هل تعرف ما الذي يربطنا بالموزمبيق؟
لا شيء. لا اقتصاد، لا سياسة، لا جغرافيا، لكن يبدو أن كرم بغداد أوسع من موازنتها، وأن أولوياتها معكوسة تمامًا.
ففي الوقت الذي يُذل فيه المواطن على أبواب مراكز البطاقة التموينية، كانت الشاحنات تغادر الحدود مُحمّلة بخيرات الناس، لا بخيرات الدولة.
الجوار يتغذى، والمواطن يتحسّر.
وكأن العلاقات الدولية في العراق تُبنى بالشوالات، لا بالسيادة.
وكأنّ القمة لا تنجح إلا بـ”رشاوى غذائية”.
هكذا أصبحنا لا نُنتج سياسة، بل ننتج عروضاً تموينية…لا نحترم الدولة، بل نُقيم الولائم باسمها.
وأخيرًا: القمة التي دعَت إرهابياً كما كانت تُصنفه أمريكا… وغسلت تاريخه ببدلة رسمية وتقصير لطول اللحية لتكتمل المهزلة، لم يتردد بعض المسؤولين قبل أيام في التلميح أو التمهيد لدعوة أبو محمد الجولاني — زعيم هيئة تحرير الشام — إلى قمة بغداد بعد أن كانوا يصفونه حتى الأمس القريب بالإرهابي، جاءت لحظة الصمت، وخرج لنا “ملك الجسور” ليعلن دعوة الجولاني لحضور القمة ليأتي من دمشق ويسير على الطريق الذي امتلأ بجثث ضحاياه.
نعم، والمبرر؟ أن قانون الجامعة العربية يقتضي دعوة الجميع!
الدماء مقابل القمم؟
أهذا هو منطق الدولة؟
أي مهزلة أكبر من هذه؟
رجل مطلوب دولياً، تلطّخت يداه بالدم، صار “ضيف شرف” على موائد القمة؟
هل غيّر بدلته، فغسلت ماضيه؟
هل نسي السياسيون دماء الأبرياء؟
أم أن الذاكرة السياسية العراقية قصيرة جداً، وضميرها قابل للتأجير؟
إذا حضر، فكيف سيصافحه من يدّعي الجهاد والدفاع؟
هل دماء الأبرياء تُمحى بولاية ثانية؟
إذا كان الإرهابي يُغسل بالمصافحة، فماذا نقول عن شهدائنا؟
وإذا كان الكرسي في قاعة القمة يُمنح لمَن دمّر أوطانًا، فلماذا نلوم الخونة
وبالختام فعلاً نحن نعيش في “حكومة المجدّرة الديمقراطية”
لا يوجد مشروع وطني.
لا توجد رؤية.
لا توجد دولة أصلاً.
كل ما لدينا هو وصفة تموينية تُدار من فوق، يتداولها رجال سلطة بلا خيال، بلا ضمير، وبلا كفاءة.
نُحكم كما تُدار “جدرية العدس”بخفّة، بلامبالاة، وبسخرية.
نُدار بعقلية “سوق شعبي”، لا بعقلية دولة محترمة.
لقد أصبح الوطن مجرّد وجبة ساخنة على طاولة فاسدة.
وصرنا نعيش تحت سلطة المجدّرة.