
• الرئيس ترامب يقر بتفوق روسيا الكبير على أوكرانيا عسكريا ويحذر من أن استمرار الصراع يمكن أن يقود إلى حرب عالمية ثالثة
المنعطف العسكري
جاء حوار الرئيسين بوتين وترامب بعد أسبوع عمليا من حدث عسكري نوعي، أثر في تكريس توجهات الرئيس ترامب للانطلاق واقعيا من تفوق روسيا العسكري، كما سنرى لاحقا، ناهيك عن أنه حدث مدهش عبر عملية فريدة من نوعها لا شك أنها ستدرس في الأكاديميات العسكرية ليس في روسيا وحدها بل وفي معظم الأكاديميات العسكرية في العالم فما هي هذه العملية.
رغم إحراز القوات الروسية نجاحات متلاحقة في دحر القوات الأوكرانية شيئا فشيئا من المناطق التي احتلتها في مقاطعة كورسك الروسية إلى أن ذلك طال من جهة مما جعل هذا التقدم بطيئا جدا من ناحية ثم ازداد الوضع تعقيدا في مدينة سودجا التي حصنها الأوكرانيون بشكل هائل خلال الأشهر الثمانية الفائتة منذ احتلال هذه الرقعة في 6 أغسطس من العام الفائت من جهة ثانية وكان واضحا أن أوكرانيا تريد أن تساوم على هذه المنطقة لعملية تبادل مع الأراضي التي استعادتها روسيا، وهي في الواقع أكبر بأكثر من مئة مرة خاصة بعد تنفيذ العملية الأخيرة وهي تحرير مدينة سودجا.
وقد قام -حسب فاليري غيراسيموف رئيس هيئة الأركان الروسية- أكثر من 600 عسكري روسي من خيرة المقاتلين في قوات أحمد الشيشانية، ولواء المحاربين القدماء، ولواء الهجوم المحمول جوا، وفوج البنادق الآلية، بعملية خارقة غير عادية بعد أن استعصت مدينة سودجا بتحصيناتها المنيعة، حيث قاموا بالتسلل داخل أنبوب الغاز بسرية مطلقة، وساروا لمدة أربعة أيام وهم منحنون لضيق الأنبوب حاملين ما وزنه 45 كيلوغراما من العتاد والسلاح وتابعوا رغم المخاطر من الأجواء داخل الأنابيب، واضطروا في كثير من الأحيان إلى التحدث بلغة الإشارة حين سماع أصوات الجنود الأوكران فوقهم، وحين يكون هناك هدوء حقيقي يقومون بثقب فتحات للتهوية في الأنبوب، وقد انطفأت المصابيح لضعف البطاريات مع انقضاء اليوم الأول لكنهم تابعوا برباطة جأش، وكانوا يضطرون للاستراحة كل خمسين مترا في حين كان عليهم اجتياز 15 كيلومترا في ظلام دامس وحالة ضيق التنفس من بقايا الغاز، حتى تدهورت الحالة الصحية لدى عدد من الجنود ناهيك عن تلطخهم بالترسبات والزيت والسخام، وصل الجنود إلى النقاط المقصودة خلف خطوط القوات الأوكرانية في اليوم الخامس، وبهدوء كامل فاجأوا القوات الأوكرانية التي أصيبت بالذعر والتشتت وراحت تطلق النار عشوائيا خاصة أن الجنود الروس كانوا قد وضعوا للتمويه إشارت عسكرية أوكرانية على أكتافهم وتمكنوا من احتلال عدد كبير من المباني في وقت متزامن ضمن اتفاق مع الأركان الروسية، حيث شنت القوات الروسية هجوما عنيفا، وتم تحرير مدينة سودجا وفر العديد من الجنود الأوكرانيين وتم أسر عدة مئات…
كانت هذه العملية نقطة تحول حاسمة حيث أصبح مجموع ما حررته روسيا من المنطقة التي احتلتها أوكرانيا قرابة 90%، أي أن كييف باتت تسيطر فقط على قرابة 400 كيلومتر مربع، فعن أي عملية تبادل يمكن أن يجري الحديث في حين أن مجموع ما استرجعته روسيا يزيد عن 44 ألف كيلومتر مربع.
انعكاس كورسك على الموقف الأمريكي
توضحت الصورة منذ أمد غير قصير للرئيس ترامب، وأدرك أن أوروبا تنفخ في قربة مثقوبة، وأن تحقيق النصر الاستراتيجي على روسيا كما تود أوروبا مجرد أوهام ومضيعة للوقت، عدا عن خطورة تحول الوضع إلى مواجهات مباشرة واندلاع حرب عالمية ثالثة، حتى أن ويتكوف مبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط رد على تصريحات الرئيس الفرنسي الأكثر تشددا ضد روسيا والذي شكك برغبة روسيا بالتسوية، فعبَّر عن أسفه لتصريحات ماكرون، وحتى روبيو وزير الخارجية الأمريكية أكد أن واشنطن تشعر بتفاؤل حذر بشأن تعاونها مع روسيا بحل الأزمة الأوكرانية، وأعلن والتز مساعد الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي أن التسوية السلمية للنزاع في أوكرانيا ستشمل تنازل كييف عن جزء من أراضيها مقابل ضمانات أمنية في المستقبل، وشدد على أن فكرة منح أوكرانيا العضوية في حلف الناتو لا تحظى بدعم الولايات المتحدة ناهيك عن التأكيد بأن حل الأزمة الأوكرانية يجب أن يأخذ طابعا مستداما، وكل هذه المواقف تصب عمليا في مسار الرغبات الروسية وشروطها الرئيسية. الجدير بالذكر أن ترامب أعلن في قاعدة أندروز الجوية بالقرب من واشنطن أن القوات الروسية تحتل موقعا قويا للغاية، وأنها تحاصر الأوكرانيين ولديها عدد كبير من الجنود الأوكرانيين كأسرى وقد طلب من الروس الرأفة بهم.
الحوار الحاسم
لعل أول ما يلفت النظر في ردود الفعل على الحوار الهاتفي المطول بين الرئيسين الروسي بوتين والأمريكي ترامب أن كلا من موسكو واشنطن قيما هذه الحوار باعتباره جيدا ومثمرا وإيجابيا، عدا عن التنويه باتساع المواضيع الدولية والإقليمية التي تناولاها كالوضع في الشرق الأوسط والبحر الأحمر إلى جانب تسوية الأزمة الأوكرانية، وتطوير التعاون الثنائي، ومن أهم التعليقات على هذا الحوار أن البيت الأبيض أعلن في بيان أن الرئيس ترامب حذَّر من أن استمرار النزاع في أوكرانيا كان سيؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، وأن الزعيمين أكدا على ضرورة تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين ما يحمل فرصا كبيرة للتعاون الاقتصادي بعد تحقيق السلام. حتى أن الرئيس ترامب وصف محادثاته مع الرئيس بوتين بأنها رائعة، وقد أكد الكرملين أيضا في بيان رسمي أن الرئيس بوتين عبر عن امتنانه للرئيس ترامب لمساعدته في إنهاء الأعمال العدائية، ووصف مساعي الرئيس الأمريكي بأنها نبيلة، لكن الرئيس الروسي نوه بضرورة وقف المساعدات العسكرية والاستخباراتية الأجنبية لكييف، كما أعلن عن موافقته على المقترح الأمريكي بوقف الهجمات المتبادلة على منشآت الطاقة لمدة ثلاثين يوما، وهو أهم ما صدر عن الحوار على الصعيد العملي، وانتهى الحوار الذي استمر ساعتين ونصف بكثير من الود والتفاؤل حتى أنه لمح بفتح أبواب التعاون الاقتصادي لاحقا بين البلدين.
زيلينسكي يعبر عن مخاوفه
أثار هذا التقارب الروسي الأمريكي حفيظة كييف إلى درجة الهلع، حتى أن القوات الأوكرانية قامت بهجوم كبير بمئات الجنود وعدد كبير من الدبابات والمدرعات على مقاطعة بيلغورد الحدودية الروسية بالتزامن مع الحوار بين الرئيسين بوتين وترامب، وأعلنت الدفاع الروسية انه تم صد الهجوم وتكبيد القوات الأوكرانية خسائر كبيرة حسب الدفاع الروسية، ومع ذلك سارع الرئيس زيلينسكي إلى الإعلان عن موافقته على هذا المقترح الأمريكي بعدم تبادل قصف منشآت الطاقة وفي الوقت نفسه عبّر عن أمله في ألا يقطع الشركاء المساعدات العسكرية والاستخباراتية عن كييف كما أراد بوتين، وقد رحب المستشار الألماني شولتس في مؤتمر صحفي مع الرئيس الفرنسي ماكرون بعدم استهداف البنى التحتية للطاقة، واعتبرها خطوة جدية نحو السلام منوها من جديد بضرورة مشاركة أوكرانيا في اتخاذ القرارات المتعلقة بها، وقال وزير الخارجية الهنغارية سيارتو عندما تكون العلاقات بين الروس والأمريكيين طبيعية فإن العالم كله سيكون في أمان.