“نجح الملك الأردني، حتى الآن، في المناورة بين الغضب تجاه إسرائيل في المملكة وبين محاولة عدم كسر القواعد والأدوات حيالها. انتماء المسلّح منفّذ العملية إلى عشيرة مركزية تدعمه يزيد الوضع تعقيدً”؟!
تحت هذا العنوان كتب “تسفي بارئيل” مقالاً نشرته “هآرتس” اليوم 10/9 الجاري جاء فيه: “يتمحور التحقيق الأردني الإسرائيلي المشترك في قتل الحراس الثلاثة في (جسر اللنبي)، حاليًا، حول السؤال الذي يثير لدى الأردن قلقًا ليس أقل مما يثيره لدى إسرائيل: هل كان هذا منفّذًا وحيدًا أم هو تنظيم مُؤسَّس قامت بالتخطيط والمبادرة تنفيذ هذا القتل؛ وإن كان هذا تنظيمًا، فمن الذي يقف وراءه. ربما كان التعاون الاستخباراتي الوثيق بين الدولتين المجال الوحيد الذي لم يتضرر ولم يتقلص نتيجة الحرب في قطاع غزة ومن شأنه أن يضمن أن يكون التحقيق ناجعًا وسريعًا. مع ذلك، فإن القلق لدى الأردن هو مضاعَف والحرج كبير جدًا. فمنذ بدء الحرب في قطاع غزة يدير النظام الأردني معركَة مزدوجة: يحاذر، من الجهة الأولى، ويحرص على عدم كسر القواعد والأدوات في التعامل مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة ـ وقد حاول، بطرق دبلوماسية، إقناع إسرائيل بعدم غزو قطاع غزة، وحين أخفق في ذلك، ندد بسياستها بتعابير فظة، أعاد السفير الأردني وقرر تجميد العديد من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية (مثل اتفاقية الكهرباء الخضراء مقابل المياه، والذي كان من المفترض أن تقوم إسرائيل بموجبها ببيع الأردن نحو 200 مليون متر مكعب من المياه مقابل 600 ميغاواط من الكهرباء). في المقابل، يواصل شراء الغاز من إسرائيل، على الرغم من المُطالَبة الجماهيرية والبرلمانية بإلغاء جميع الاتفاقيات مع إسرائيل. بل إن وزير خارجيته، أيمن صفدي، هو من أشدّ منتقدي إسرائيل وقد دعا إلى محاكمتها بسبب ارتكابها جرائم حرب ـ رغم أنه كان قد خطط مع وزير الخارجية الإسرائيلي، غابي أشكنازي، قبل ذلك بعامين، لكيفية الدفع قُدُمًا بمشاريع مشتركة”؟!
وتابع: “موقع العملية في (جسر اللنبي)، أمس. ما يثير قلق الأردن ـ أكثر من إسرائيل ـ هو السؤال ما إذا كان منفذ العملية فردًا عمل لوحده أم جزءًا من تنظيم مُمَأسَس خطط وبادر لتنفيذ عملية القتل؛ وإنْ كان الأمر يتعلق بتنظيم، فمن الذي يقف وراءه؟ لكن، في الوقت ذاته، قدّمت الأردن المساهمة الأكثر أهمية لأمن إسرائيل والتي تجسدت في مشاركتها الحاسمة في إحباط الهجوم الإيراني على إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيّرة في نيسان الماضي. وقد أوضحت الأردن لإيران أنها لن تسمح بتحويل مجالها الجوي وأراضيها بشكل عام إلى منطقة حرب وقتال بين الدول، كما عادت وكررت تحذيرها هذا عقب اغتيال إسماعيل هنية، حينما كانت المنطقة تستعد لعملية ثأر إيرانية. ومن أجل (التوازن)، وجهت الأردن رسالة تحذيرية مماثلة نحو إسرائيل أيضاً”؟!
واستطرد الكاتب قائلاً: “تجرى في الأردن، بصورة دائمة، مظاهرات مقابل السفارة الإسرائيلية في عمّان (رغم أن طاقم السفارة لا يتواجد فيها) وتفرّق قوات الأمن الأردنية، في الوقت ذاته، مظاهرات مناوئة لإسرائيل عندما ترى أنها تشكل تهديدًا على النظام العام. من جانبها، قررت إسرائيل (معاقبة) الأردن على تصريحات أردنية ضدها ومددت سريان مفعول اتفاقية بيع المياه للأردن بستة أشهر فقط، بدلًا من خمس سنوات، كما طلبت المملكة. ليس ثمة أي حوار بين نتنياهو والملك عبد الله، لكنّ إسرائيل سمحت للأردن بأن تنقل، مظليًا، مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، حيث شارك الملك نفسه في إحدى تلك الطلعات وهو يرتدي الزي العسكري. وفي الوقت نفسه، تُميّز الأردن وتفصل، بشكل حاد وواضح، بين الدعم الإنساني لسكان قطاع غزة وبين علاقاتها مع حركة حماس، التي تم طرد قيادتها من المملكة ويُحظَر على قادتها زيارتها”؟!
وأضاف: “بعيدًا عن المناكفات الدبلوماسية، يساور الأردن قلق كبير إزاء العواقب السياسية التي يمكن أن تخلّفها الحرب في داخل المملكة. فعندما بدأت إسرائيل بطرد مئات آلاف الفلسطينيين من منازلهم في غزة، وعندما خشيت مصر من أن هذه الممارسات قد تؤدي إلى غزو أراضيها من قبل مئات آلاف الغزيين، تصوّرت الأردن كيف سيبدأ آلاف الفلسطينيين من الضفة الغربية الهجرة إليها، هي أيضًا. ويزداد هذا القلق ويتعمق حيال النشاط العسكري في الضفة الغربية والمواجهات العنيفة بين المستوطنين والسكان الفلسطينيين، والتي ترمي ـ بحسب التحليل الأردني ـ إلى الترحيل (ترانسفير). وقد التقى الملك عبد الله مع الرئيس الأمريكي جو بايدن وأجرى معه ومع المسؤولين الكبار في إدارته عشرات المكالمات الهاتفية بهذا الشأن. واستنادًا إلى مصادر أردنية رفيعة، فقد حصل الملك على تعهد أمريكي بأن الإدارة الأمريكية لن تسمح لإسرائيل بالتسبب بحصول هجرة جماعية للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن. غير أنّ هذا التعهد فشل في تهدئة الملك والقيادة الأردنية التي تخشى، وبحق، من الإجراءات التي يقوم بها الوزير إيتمار بن غفير في الحرم القدسي الشريف ومن تصريحات بتسلئيل سموتريتش. والواقع أن الولايات المتحدة، ومعها جميع الدول العربية والدول الإسلامية، تشاطر الأردن هذا القلق لكن الشركاء العرب يلاحظون، في الوقت ذاته، مدى التراخي الأمريكي الذي يعجز عن لجم نوايا الاستيلاء على الحرم القدسي وعن منع الأعمال الوحشية التي يقوم بها المستوطنون”؟!
ويؤكد على أنه: “يجب التحقيق لمعرفة مَن الذي وقف وراء العملية في جسر (اللنبي) ولماذا، لكن لا حاجة إلى الذهاب بعيدًا. فقد هيأت الأجواء في الأردن خلال أشهر الحرب أرضية خصبة لمثل هذه العمليات”، قال لـ (هآرتس) أمس صحفي أردني يعمل في صحيفة حكومية: (لا يمكنكم أن تتصوّروا مدى وحجم الغضب والإحباط بين المواطنين الأردنيين. إنهم يشاهدون مقاطع الفيديو من قطاع غزة، الدمار والقتل الذي طال أكثر من 40 ألف إنسان، وممارسات بن غفير في الحرم القدسي الشريف والحرب في الضفة الغربية. نحن، كصحفيين، لا نستطيع كتابة كل ما نريد، لأنه جرى تحذيرنا بـ (عدم تأجيج الرأي العام والمس بالأمن الوطني). لكن المواطنين ليسوا بحاجة إلى وسائل الإعلام الأردنية الرسمية لمعرفة ما يجري. على هذه الخلفية، يمكننا فقط أن نحمد الله على أنه لم يكن هنالك المزيد من العمليات”؟!
ويسهب بالقول: “أنزلت الحرب بالأردن ضربات اقتصادية قاسية سوف تتطلب عملية طويلة من إعادة التأهيل قبل أن يعود الاقتصاد الأردني إلى ما كان عليه قبل الحرب. وكان الملك قد أعلن، بصورة يائسة، أن (الاقتصاد الأردني لن يعود إلى ما كان عليه). ووفقًا لمعطيات غرفتي التجارة والصناعة، فإن السياحة في الأردن ـ والتي تشكل نحو 15 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ـ قد شهدت في بداية العام الجاري هبوطًا حادًا بنحو 50 بالمائة في حجم الإيرادات، ويعمل في هذا القطاع نحو 57 ألف شخص ومن المتوقع معدلات البطالة في الأردن، والتي كانت حوالي 22 بالمائة قبل الحرب، أن تسجل ارتفاعًا حادًا الآن. كما انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 5 بالمائة ومثله أيضًا التجارة الخارجية والاستيراد، وهو ما يعود بالأساس إلى ارتفاع تكاليف النقل البحري، الناجم عن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. بموجب اتفاقية مع الإدارة الأمريكية، سوف تحصل الأردن على مساعدات بقيمة 1,45 مليار دولار سنويًا حتى العام 2029، إضافة إلى حصولها على مدفوعات لقاء استخدام القواعد العسكرية على أراضيها. إلا أن هذه المبالغ لا تكفي للتغلب على إجماليّ الدين الذي يبلغ 56 مليار دولار، تعادل نحو 115 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. صحيح أن وكالة التصنيف الائتمانيّ العالمية (ستاندرد أند بورز) قررت، هذا الأسبوع، رفع مستوى التصنيف الائتماني للمملكة والإشادة بالمنظومة المصرفية فيها وبخطط الإصلاح الاقتصادي، لكن حيال الأضرار الاقتصادية الجسيمة التي تكبدها الاقتصاد الأردني، من المشكوك فيه أن تكون الأردن قادرة على تطبيق خطتها لزيادة إيرادات الدولة بمبلغ إضافيّ مقدراه 18 مليار دولار، يُفترَض أن تأتي من جباية الضرائب وتقليص حجم الدعم الحكومي (السوبسيديا)”؟!
ويختم المقال قائلاً: “وقعت العملية في (جسر اللنبي) قبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات للبرلمان الأردني. في العادة، يثير هذا الحدث الكثير من التثاؤب بين الأردنيين، وهو ما تدل عليه نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات، والتي هبطت في العام الماضي إلى نحو 29 بالمائة فقط، الأمر الذي يعكس حالة من انعدام الثقة العميق بين الجمهور ومؤسسات الدولة. لكن مع ذلك، ربما تتعزز قوة أحزاب المعارضة هذه المرة، بسبب الحرب أساسًا، لتشكل بالتالي تحديًا لسياسة الملك. والخوف هو أنه حتى القاعدة العشائرية، التي يعتمد الملك عليها بشكل تقليدي، قد تتصدع نظرًا لأنّ منفذ العملية، ماهر ذياب الجازي، هو ابن إحدى العشائر الكبرى والهامّة في الأردن، عشيرة الحويطات، إحدى ركائز الدعم الأساسية للنظام الأردني على مرّ السنين. كان سائق الشاحنة، الجازي، من سكان قرية أذرح في محافظة معان الأردنية، والتي ولد فيها أيضًا هارون الجازي، أحد قادة القوات الأردنية التي حاربَت ضد إسرائيل خلال (حرب التحرير)، ومشهور حديثة الجازي، أحد القادة العسكريين الأردنيين الكبار الذين قاتلوا ضد إسرائيل في معركة الكرامة في العام 1968. من غير الواضح، حتى الآن، ما إذا كان انتماء منفذ العملية إلى (سلالة الشرف الوطني) وإلى عشيرة تتمتع بالعديد من الحقوق الوطنية هو الذي شحَنه بالدافعية لتنفيذ القتل، إلا أن هذا الانتماء يضع الملك عبد الله أمام تحدٍّ سياسيٍّ خطير ٍيمكن أن يضعه على مسار تصادميّ مع أحد أركان حُكمه”؟!