عود على بدء
في دروسه في كلية الحقوق في جامعة القاهرة في 1959 ـ 1960 يستعرض الدكتور محمد نجيب حسني خطوات ولادة ما نسميه القانون الجنائي الدولي بدءا من نهاية الحرب العالمية الثانية (دار النهضة العربية “دروس في القانون الجنائي الدولي”)، مركزا على المادتين الأولى والثانية من ميثاق الأمم المتحدة باعتبار مهمة هذه الهيئة الدولية الأولى الحفاظ على السلم والأمن، والثانية الامتناع عن التهديد باستخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة. مذكرا بأن الجهاز الذي يشرف على ذلك، وفق المادة 43 من الميثاق هو مجلس الأمن.
في 11 ديسمبر 1946، أقرت الجمعية العامة مبادئ القانون الدولي لمحكمة نورنبرغ في تحديد الصفة الجرمية أي (الجرائم ضد السلام، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية). وفي 9 ديسمبر 1948، صدرت اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية وعلينا انتظار 28 نوفمبر 1953 لإدخال جريمة العدوان باعتبارها أخطر جريمة ضد السلم والأمن الدوليين.
تكفلت “لجنة القانون الدولي” في 1950 بصياغة المبادئ التي يقوم عليها القانون الجنائي الدولي الوليد بتعريف الحقبة له كالتالي:
ـ المسؤولية الدولية للأفراد
ـ سيادة القانون الدولي على القانون الوطني
ـ سقوط الحصانة في الجريمة الدولية
ـ سيادة القانون على أوامر السلطة الوطنية ورئيسها
ـ الحق في محاكمة عادلة
ـ تحديد الجرائم الدولية
ـ مسؤولية الشريك في الجريمة الدولية.
كما لاحظ ألبرت آينشتاين مبكرا، تجنبت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية عن سابق إصرار وتصميم، اعتبار الحرب في حد ذاتها جريمة، وتجنبت أن تتمتع محكمة نورنبرغ بالصفات الدنيا لاستقلال القضاء الجنائي الدولي. فمحكمة نورنبرغ تتمتع بكل الصفات التي تنزع عنها الاستقلالية: هي محكمة استثنائية المسيرة، عسكرية البزة، انتقائية الهدف، محكمة حصرية الانتساب بدول انتصرت في الحرب، كشرط أساسي في بنيتها ووظيفتها.
منطق “عدالة” القوة سيبقى فوق قوة “العدالة” ما دامت “المنظومة العالمية” سائدة على عالمنا، ولهذا وضعنا لهذه المراجعة التاريخية السريعة عنوان “القضاء” Juridiction وليس العدالة الجنائية الدولية، التي تبقى طموحا بشريا غير منجز، ولكي يكون من أهداف نضالنا الحقوقي والقانوني التجاوز الفعلي، لهذه المنظومة التي تسمي كل من يناهض توحشها معسكرا للشر.
لذا وبكل بساطة، كان اعتبارها نقطة الانطلاق لبناء ما نسميه “القضاء الجنائي الدولي” تأصيلا لخطيئة أصلية أنجبت وطورت هذا المفهوم في خاصرة الأقوى لا في رحم السيرورة التاريخية لإنجاب عدالة دولية تتمتع باستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية العليا المتمثلة في مجلس الأمن والسلطة “التشريعية” المكونة من جميع أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ويتضح ذلك بجلاء في المواد 39 ـ 43 من ميثاق الأمم المتحدة حيث وحده مجلس الأمن من يقرر “ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان” (مادة 39)، هو الذي “يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضرورياً أو مستحسناً من تدابير مؤقتة” (مادة 40)، هو الذي “يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء “الأمم المتحدة” تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئياً أو كليا وقطع العلاقات الدبلوماسية” (مادة 41)، وهو أيضا من يقرر أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، وجواز أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه (المادة 42). أما باقي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة فعليهم التعهد في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي، بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن، بناء على طلبه، وطبقاً لاتفاق أو اتفاقات خاصة، ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي” (المادة 43).
في اللغة الطبية يمكن ترجمة هذه الأحجية بالقول: مجلس الأمن هو الذي يعطي التشخيص للعلة، ثم يقرر مراحل العلاج، ثم يصل بمداولاته إلى مطالبة الجميع بالقيام بواجبهم لتطبيق الخطة العلاجية التي قررها. أي أن محكمة العدل الدولية في التحليل الأخير، لا يتعدى دورها تقديم تشخيصها الخاص والتعبير عنه، دون أية صلاحيات تسمح لها بالتدخل فيما يسمى “إقامة العدل”L’administration de la Justice أو المحاسبة Accountability، فهي ليست سلطة قضائية بأي تعريف معاصر للكلمة، لأن القرار النهائي يبقى بيد مجلس الأمن.
وعندما نقول مجلس الأمن، لا نتحدث عن الدول المنتخبة غير الدائمة العضوية، بل عن خمسة أعضاء يتمتع كل واحد منهم بسلطة عليا اسمها سلطة “الفيتو”، هذه السلطة توقف أي مشروع قرار يخالف سياساتها وقراءتها لأي صراع مسلح أو نزاع داخلي أو إقليمي أو دولي.
“الشرعية الدولية” ومجلس الأمن!!
كما يذكر جيمس أ بول في كتابه “في الثعالب والدجاج”: “سعى الأعضاء الخمسة دائمًا إلى إبقاء المجلس خارج أي نظام قانوني، وبما يتجاوز أي قيود قد تقيد أيديهم أو تحدد إجراءاتهم مسبقاً. كانت حكومة الولايات المتحدة، التي تشير في كثير من الأحيان إلى “سيادة القانون” وأهمية احترام القانون الدولي، حازمة بشكل خاص في الإصرار على أن المجلس يضع القانون ولكنه غير ملزم بالقانون. كتب جون فوستر دالاس، وهو محامٍ ورجل دولة أمريكي مؤثر، في عام 1950 أن “مجلس الأمن ليس هيئةً تطبق القانون المتفق عليه فقط. إنه قانون في حد ذاته”. ومضى دالاس ليقول: “لم يتم وضع مبادئ قانونية لتوجيهه. يمكنه أن يقرر وفقًا لما يعتقد أنه مناسب “.
تثبت ممارسات المجلس رأي دالاس، على الرغم من أنها قد تبدو في ظاهرها غير ذلك. “المجلس يتحدث باستمرار بصوت القانون. يقوم بانتظام بسن القانون، وتفسير القانون، وتطبيق القانون” كما يقول خوسيه ألفاريز José Alvarez. تشير نقاشات المجلس وقراراته أحياناً إلى قواعد القانون الدولي، وأهمية القانون الدولي، وضرورة احترام القانون الدولي. كما يعقد المجلس مناقشات دورية حول “سيادة القانون”. في التسعينيات من القرن الماضي أنشأ المجلس عدداً من المؤسسات القانونية الدولية مثل المحاكم الجنائية المتخصصة، ومؤسسات ad hoc في المكان والموضوع للقضاء الجنائي الدولي استهدفت نزاعات معينة مثل يوغسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون..
وقد شكلت هذه المحاكم فرصة استثنائية لتحرير القانون الجنائي الدولي، ولو بشكل جزئي، من سيطرة مجلس الأمن، خاصة منها المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، التي أسهمت في تأصيل فكرة قيام محكمة جنائية دولية ولكن أيضا ضرورة عولمة القضاء الجنائي الدولي وتعزيز دور الاختصاص الجنائي العالمي في القضاء الوطني والإقليمي. وجاء اجتماع روما في 1998 ليشكل نقطة انطلاق جدية لولادة محكمة جنائية دولية.
في هذا المؤتمر الكبير الذي جمع أهم الخبرات القانونية الجنائية لاحت فرصة أمل بولادة جسم قضائي جنائي مستقل، يخرج عن وصاية مجلس الأمن. وما زلنا كجزء من التحالف الدولي لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية نتذكر تلك الأيام الأخيرة السوداء التي وضعت العالم من جديد أمام الأسئلة الأساسية في نشوء محكمة جنائية دولية تشكل نقطة ارتكاز جديدة للعدالة الجنائية الدولية:
ففي الأيام الأخيرة من مؤتمر روما الدبلوماسي في العام 1998، اعترف واضعو الميثاق بالسماح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتدخل بشكل إيجابي وسلبي في ممارسة اختصاص المحكمة. في الأساس، وتم منح مجلس الأمن السلطة التقديرية:
(1) ـ لإحالة الحالات إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق.
(2) ـ لمطالبة المحكمة بعدم البدء أو المضي قدمًا في التحقيق أو الملاحقة القضائية لمدة اثني عشر شهرًا قابلة للتجديد.
هذه الطريقة التي تم بها تنظيم العلاقة المصممة بين مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية أثارت مخاوف قوية بين العديد من الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، وما زالت موضوعًا مثارًا لضرورة الإصلاح المؤسسي لهذه العلاقة.
لم يمنع رفض ثلاث دول أعضاء في مجلس الأمن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، من أن يكون لمجلس الأمن دورًا رئيسًا في سياسات المحكمة من خلال “حقه” في فتح دعاوى قضائية كبرى وإيقاف أخرى. وعندما باشرت المحكمة الجنائية الدولية ولايتها في عام 2002، طالبت الولايات المتحدة المجلس بمنح حصانة شاملة تحول دون إحالة أفراد حفظ السلام الذين ينحدرون من دول ليست أطرافاً في المحكمة (الولايات المتحدة ليست طرفاً كذلك روسيا والصين)، وقد اشتكت الولايات المتحدة من أن المحكمة الجديدة ستخضع المواطنين الأمريكيين للعدالة الدولية “ذات الدوافع السياسية”. وهددت واشنطن باستخدام حق النقض (الفيتو) لمنع جميع بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إذا لم يصوت مجلس الأمن على حمايتها من أية محاكمة محتملة. وافق مجلس الأمن على طلب الابتزاز هذا واعتمد قراراً في يوليو/تموز 2002، يمنح حصانة شاملة لمدة اثني عشر شهراً (القرار 1422/2002). شعر العديد من أعضاء المجلس بالإهانة من التهديد الأمريكي، الأمر الذي لم يمنع صدور القرار بالإجماع.
استخدمت الولايات المتحدة مرة أخرى تهديدها بسلطة “الفيتو” وجددت بنجاح ترتيب الحصانة بعد عام. إلا أن فضائح تعذيب الإدارة الأمريكية للمعتقلين في العراق وخليج غوانتانامو وأفغانستان، والتسليم الأمريكي السري للسجناء، وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة تجاه معايير العدالة الدولية أضعفت موقف واشنطن. تراجعت الولايات المتحدة، وتخلت عن الأمر بالكامل في عام 2007.
كان لتفعيل الاختصاص الجنائي العالمي وملاحقة وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد في بلدين أوربيين بتهمة ترخيص التعذيب، دورا هاما في إدخال المواثيق الدولية لحقوق الإنسان طرفا في موضوع الملاحقة القضائية والمحاسبة. إلا أن المحكمة الجنائية الدولية بقيت أضعف من ميثاق روما، ولم تتجرأ على الخوض في أي معركة، مباشرة أو غير مباشرة مع مجلس الأمن. إلى أن وقعت المواجهة الأولى في قبول عضوية دولة فلسطين بعد ست سنوات من الممانعة، والثانية في فتح ملف جرائم الحرب في أفغانستان الذي كان سببا للمواجهة المفتوحة بين الرئيس الأمريكي السابق والمحكمة الجنائية الدولية.
استخدمت الولايات المتحدة مرة أخرى تهديدها بسلطة “الفيتو” وجددت بنجاح ترتيب الحصانة بعد عام. إلا أن فضائح تعذيب الإدارة الأمريكية للمعتقلين في العراق وخليج غوانتانامو وأفغانستان، والتسليم الأمريكي السري للسجناء، وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة تجاه معايير العدالة الدولية أضعفت موقف واشنطن. تراجعت الولايات المتحدة، وتخلت عن الأمر بالكامل في عام 2007.
أصدر دونالد ترامب في يونيو/ حزيران 2020، أمرًا تنفيذيًا يسمح للولايات المتحدة بحجز أصول من أسماهم “محكمة الكونجورو” من موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ومنعهم وعائلاتهم من الدرجة الأولى من دخول البلاد. وفي سبتمبر/ أيلول 2020، قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو؛ سيتم فرض عقوبات على فاتو بنسودا (المدعية العامة وقتئذ) وعلى مسؤول كبير آخر في المحكمة الجنائية الدولية، فاكيسو موتشوتشوكو بموجب الأمر، مضيفًا أن أولئك الذين “يدعمون هؤلاء الأفراد ماليًا معرضون أيضًا للعقوبات”.
وصلت الرسالة، وتحدد سقف المحكمة الجنائية الدولية، وصار من الضروري أن يعرف “المدعي العام” السقف المسموح له به. وعبأت بريطانيا لاختيار مدعي عام جديد للمحكمة الجنائية الدولية يعرف جيدًا الخطوط الحمراء في وظيفته! ولكنه أيضا يعرف أن هذه الهيئة القضائية مهمة وضرورية في مرحلة تراجع العولمة وولادة عالم متعدد الأقطاب كانت الحرب الروسية الأوكرانية أولى تعبيراته الحادة.
باختصار، لم يحدث أي إصلاح أو تغيير في دور مجلس الأمن كمالك للقرار النهائي في تحديد مسارات “إقامة العدل” على الصعيد الدولي. ورغم كل الحديث عن القانون، فإن لغة قرارات المجلس تتبع أنماط التشريع الشكلية. تحتوي جميع قراراته على مقدمات مطولة مليئة بأسباب اتخاذ الإجراءات والإشارات إلى إجراء سابق من المجلس بشأن نفس الموضوع، لإعطاء مظهر سطحي لقرارات صادرة عن محكمة. في الواقع، لا توجد فعلياً إشارات إلى سوابق في القانون الدولي أو العرف بل حتى سوابق في عمل المجلس خارج الحالة المحددة وموضوع النزاع. لا يعترف سادة المجلس بالقوة المسبوقة، ناهيك عن أية سلطة قانونية خارجية. لم يجد مجلس الأمن أبداً أنه من الضروري تحديد” قاعدة قانونية” دقيقة لقراراته”، واختار بدلاً من ذلك “نهجاً أوسع لسلطاته القانونية”. فهو لا يتصرف كما لو كان ملزماً بالقانون – حتى بقانون إنشائه. وتبذل الدول الخمس قصارى جهدها لتجنب القيود القانونية على أفعالها، وقد نجحت تقريباً في القيام بذلك. على هذا النحو، يقوض المجلس نظام القانون الدولي العرفي ومسلمات ميثاق روما ويخلق بين الأمم والعامة حالة عدم ثقة بالقانون.
تبعية محكمة العدل الدولية لأوليغارشية مجلس الأمن
باعتباره صاحب القرار في تشخيص العلة الجنائية، فهو بحاجة إلى مراعاة الحد الأدنى لآراء واستشارات محكمة العدل الدولية، الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة. باعتبار هذه المحكمة مخولة بالفصل في الخلافات الدولية، التي ترفعها إليها الدول، ويتداخل اختصاصها بشكل كبير مع مجلس الأمن. في الواقع، يقترح الميثاق أن على أطراف النزاعات النظر في حلها بالوسائل القانونية، ويقترح كذلك أن القضايا المناسبة يجب أن يحيلها الأطراف إلى المحكمة، قبل اللجوء إلى المجلس (مادة 33).
كما يقترح الميثاق أن يشجع المجلس الأطراف على أخذ نزاعاتهم إلى المحكمة (مادة 36). أخيراً، ينص الميثاق على أن يطلب مجلس الأمن رأياً استشارياً من المحكمة حول الإشكاليات القانونية التي تنشأ في عمل المجلس (مادة 96). من الناحية المثالية، إذن، يجب أن تعمل المؤسستان معاً كأقران، يكملان ويعززان بعضهما البعض. أما في واقع الأمر، فإن العلاقة مختلفة تماماً. كان المجلس، بقيادة الدول الخمس دائمة العضوية، غيوراً جداً على صلاحياته لدرجة أنه قلل من أهمية المحكمة، وحافظ دائماً على السيادة للمجلس في تشكيل القانون الدولي. رفض المجلس إعطاء دور للمحكمة كشريك في صنع السلام، وسعى للضغط عليها والتأثير عليها بعدة طرق. ومما أدى إلى تفاقم العلاقة الصعبة، أن الدول الخمس دائمة العضوية جعلت ميزانية المحكمة أدنى بكثير من احتياجاتها.
باختصار، يقدم لنا مجلس الأمن مجموعة مقلقة من اجتزاء القانون الدولي، تجنب هذا القانون، وخرق القانون. لا يمكن للمجلس أن يعمل على الإطلاق إذا لم يقنع العالم بأنه يتصرف إلى حد كبير في إطار القانون والاتساق القانوني. ومع ذلك، فمن الناحية العملية، بموجب قاعدة الدول الخمس دائمة العضوية، فإنه يرفض عملية الشرعية المتسقة التي تُعتبر ضرورية للحوكمة الشرعية الشاملة. مع النطاق الهائل من النشاط اليوم والمطالبة الواسعة بالسلطة، يبدو مجلس الأمن أكثر شذوذاً واستبداداً باعتباره “قانوناً في حد ذاته”. أي حجر العثرة الأساسي في تقدم العدالة الجنائية الدولية، وبقاء قانون “القوة” فوق قوة “القانون”.
نهاية حقبة!
سجلت حروب التحرير الوطنية من الاستعمار الغربي أكبر اختراق في المنظومة العالمية عبر قرارات صدرت عن الجمعية العامة اعتبرت الحق في تقرير المصير حقا ثابتا لكل شعوب الأرض. وجاء العهد الخاص بالحقوق السياسية والمدنية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليثبتا في المادة الأولى المشتركة فيهما هذا الحق:
1 ـ لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهى بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
2 ـ لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة، التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي. ولا يجوز في أية حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة.
3 ـ على الدول الأطراف في هذا العهد، بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسئولية إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم المشمولة بالوصاية أن تعمل على تحقيق حق تقرير المصير وأن تحترم هذا الحق، وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
هل أصبحت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بعد دخول العهدين الدوليين حيز التنفيذ، جزءا لا يتجزأ من القانون الجنائي الدولي في عملية الانتقال من إعلان أخلاقي غير ملزم (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) إلى وثائق ملزمة لكل من صدّق عليها؟ وهل صار بالإمكان فعلا مواجهة عنجهية القوة بقوة العدالة، خاصة وأن الثمانينيات شهدت ولادة أول اتفاقية دولية لمناهضة التعذيب تقر بواجب كل الدول الموقعة عليها، في ملاحقة ومحاسبة من يرتكب انتهاكات جسيمة تنال سلامة النفس والجسد؟
هنا يطرح السؤال الأكثر مرارة: هل يمكن لمن يمسك بالمفاتيح الأهم للسيطرة والهيمنة أن يقبل بأي قانون ينتزع منه امتيازاته باسم العدالة والسلم وحقوق الإنسان؟
لم نكن من السذاجة لنعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تقبل أو تخضع لنواظم تمس بهيمنتها العولمية من أجل عيون حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو أي شعار أو مبادئ لا تخدم مصالحها بالمعنى المباشر. وقد شهدت بأم عيني مختلف أشكال المقاومة الأمريكية لأي خروج من هذه الهيمنة من سراييفو والكوسوفو إلى العراق وأفغانستان وفلسطين، باسم الدفاع عن الديمقراطية هنا والقضاء على الدكتاتورية أو الإرهاب هناك. الولايات المتحدة لم تصدّق حتى اليوم على كل ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وقفت بصفاقة ضد كل قرار أو ميثاق يتعلق بالتمييز العنصري ونزع الاستعمار وحق التنمية أو حقوق المهاجرين. وهي مع الحكومة الإسرائيلية، أول كيانين موقعين على اتفاقية مناهضة التعذيب صدر فيهما قرارات تسمح بممارسة التعذيب.
لم ترفض الولايات المتحدة فقط ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية بل وقعت أكثر من 63 اتفاقية ثنائية مع دول عضو في المحكمة الجنائية تمنع فيها هذه الدول من القيام بأي ملاحقة قضائية لمن يحمل الجنسية الأمريكية. وقد جمدت وأوقفت منذ إعلانها “الحرب على الإرهاب” أي تقدم يهدف لإصلاح الأمم المتحدة. واعتبرت العقوبات الأحادية الجانب سلاح حرب مع أية دولة تختلف مع سياساتها. في حين كانت المصدر الأول للسلاح والمال لدول معتدية، اليوم، الجميع يعرف ويرى أنه دون الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي المباشر للأبارتايد الإسرائيلي، لم يكن بوسع الاحتلال الصهيوني الاستمرار في الإبادة الجماعية لشعب فلسطين. ومع كل هذا يستقبل بنيامين نتنياهو استقبال الأبطال في الكونغرس الأمريكي. كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأكثر صراحة في التعبير عن السياسة الأمريكية التي لم يتغير فيها شئ يذكر عندما قرر إعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل والجولان جزء لا يتجزأ منها واعتبر كل قرارات الأمم المتحدة فاشلة ولا قيمة لها. وعشنا وسمعنا معظم أقواله على لسان بايدن- بلينكن بشكل مقزز.
لقد وضعت المواجهة المفتوحة التي خاضتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، كل النقاط على الحروف: إلى أي حد يمكن من داخل المنظومة القضائية الدولية الحالية فتح آفاق مستقبلية للمقاضاة عبر “الاتفاقيات الدولية” التي تشكل جزءا لا يتجزأ من منظومة المحاسبة خارج مجلس الأمن، (عبر ما يسمى احترام هذه الاتفاقيات من الدول الموقعة والمصدقة عليها)؟ فقد بينت بوضوح المعسكر الطامح لتعزيز وتقوية القانون الجنائي الدولي وذاك الذي لم يتوقف عن ضربها؟ وما زالت أرداف المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ترتجف عند الحديث عن المحاسبة في كل ما يتعلق بآخر نظام أبارتايد على سطح البسيطة، فلن تنال هذه المحكمة ثقة أية ضحية من ضحايا الإبادة الجماعية التي نعيشها منذ قرابة العام.
خلاصة الأمر، أن منطق “عدالة” القوة سيبقى فوق قوة “العدالة” ما دامت “المنظومة العالمية” سائدة على عالمنا، ولهذا وضعنا لهذه المراجعة التاريخية السريعة عنوان “القضاء” Juridiction وليس العدالة الجنائية الدولية، التي تبقى طموحا بشريا غير منجز، ولكي يكون من أهداف نضالنا الحقوقي والقانوني التجاوز الفعلي، لهذه المنظومة التي تسمي كل من يناهض توحشها معسكرا للشر.